قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, October 3, 2017

قصص لا تكتمل - 4



أيام طويلة مضت على مصطفى ولا شيء سوى الجدب.. لم يجلس أمام الكمبيوتر قط، ولم يحاول أن يبدأ قصصًا جديدة، فالأمر لم يعد قابلاً للتفسير، وكل ما هو غامض يثير الرعب في النفس.. الرعب قد شل قدرته على ابتكار أفكار جديدة، وقد قدر أنه لو تعرض لذات التجربة مرة أخرى فمن الوارد جدًا أن يجن..

القصص التي يبدؤها تزول من الوجود بلا تفسير، واحتمال أنه يتصرف من دون أن يعرف احتمال عالٍ جدًا ومخيف جدًا.. أنت تعرف أجواء دستويفسكي، كما أن عقدة فيلم (نادي القتال) لم تفارق خياله قط..

كلما فكر في الكتابة أصيب بالرعب.. ماذا لو استيقظ ليجد أن هذه القصة الجديدة اختفت؟

قالت له زوجته:
«أنت لا تفعل شيئًا على الإطلاق.. تمضي اليوم كله أمام التلفزيون»

قال وهو يبتلع ريقه:
«سدة الكاتب.. هذا وارد جدًا… لابد من فترة أنتعش فيها»

مصمصت بشفتيها وقالت:
«أرجو ألا تطول هذه الفترة.. الكتابة هي ما يبقي البيت مفتوحًا وليس لك دخل آخر.. قلت لك ألا تستقيل من عملك»

«سوف أستعيد قدراتي فلا تقلقي»

لكنه في الواقع كان يتساءل عن الطريقة العبقرية التي ستعيده للكمبيوتر.

اعتاد في الصباح الباكر أن يأخذ ابنته للمدرسة يوميًا ثم يعود في جو الصباح البكر.. يبتاع الجريدة وبعض الشطائر، ثم يرجع للبيت فيفطر ثم يواصل النوم حتى الظهر..

كان عائدًا في ذلك اليوم عندما لاحظ تلك البناية.. بناية عتيقة من طابق واحد، عليها لافتة تقول: «مكتبة الشباب». هنا توقف متصلبًا.. لم ير هذه البناية في حياته ولم يلحظ هذه اللافتة قط. إن هذا غريب. كان يعرف عن نفسه انعدام الملاحظة، لكن ليس إلى هذا الحد..

كانت من عاداته أن يمشي وهو ينظر للأرض، ومن النادر أن يرفع رأسه ليتأمل البنايات.. برغم هذا لا بد أنه مر أمام هذه البناية آلاف المرات فكيف لم يرها؟ الاحتمال الوحيد هو أن البناية وضعت اللافتة حديثًا، وهي بناية باهتة غير متميزة في شيء.

المثير في الأمر هو أن الباب كان مفتوحًا.. مكتبة عمومية في السابعة صباحًا!.. هذا غريب..

تغلب فضوله، فقرر أن يزور المكان. اجتاز بوابة حديدية مفتوحة صدئة، ومشى في ممر طوله متر على جانبيه تمثالان بدائيان لطائر العنقاء…

الباب الرئيس كان مفتوحًا فاجتازه..

هناك كان كاونتر، وخلف الكاونتر كان رجل قصير القامة أصلع الرأس مسن، ويضع عوينات سميكة. كان منهمكًا في قراءة مجلد عتيق.. رائحة الكتب هذه..

ما الذي يقرؤه الرجل بهذا الانهماك؟ كان يطالع مجموعة مجلدات مصفرة من روكامبول.. رجل مستحيل الزمن العتيق.. وكان يضع أمامه قدحًا تتصاعد منه رائحة القهوة الزكية.

لما شعر بدخول مصطفى رفع حاجبيه فوق إطار العوينات.. راسمًا علامة استفهام، وابتسم ابتسامة خافتة توشك على أن تشقق تجاعيد وجهه المسن..

«هل تبحث عن شيء معين؟»

ابتلع مصطفى ريقه وقال:
«لا أبحث عن كتاب بعينه… سأعرف الكتاب الذي أريده عندما أراه»

«هذه إجابة ذكية..»

قالها الرجل وهو يغلق المجلد ويمتص طاقم أسنانه وأردف:
«الكتاب الجيد يناديك من على الرف.. حتى قبل أن تعرف شيئًا عنه»

ثم فتح دفترًا أمامه وطلب من مصطفى أن يسجل بياناته.. الاسم والعنوان ورقم الهاتف.. ما أهمية هذه الخطوة؟.. لكن مصطفى لم ير خطرًا في ذلك، ولاحظ أن الصفحة تحمل أربعة أسماء فقط.. هذه المكتبة لا تلقى الكثير من الرواج..

«لم أرَ في حياتي مكتبة عمومية مفتوحة في هذا الوقت المبكر»

قال الرجل:
«هي ليست مفتوحة.. الحق أنها لا تغلق أبدًا!»

قال مصطفى لنفسه إنه بحاجة إلى فحص نظره.. لو كانت هذه المكتبة مفتوحة طيلة اليوم فلابد أنه معدوم الملاحظة تمامًا. في كل يوم يمر بها أثناء العودة من مدرسة ابنته فلم يرها إلا اليوم..

«ما هي طريقة الاستعارة؟»

«لا شيء… لدينا اسمك وعنوانك ونثق بأنك سترجع الكتاب خلال يومين»

وإذا لم أفعل؟ تساءل في ذهنه.. هذا الشيخ لا يبدو قادرًا على استعادة الكتب التي لا يعيدها أصحابها. حتى الاتصال بالشرطة يكلفه جهدًا فوق ما يطيق…

ثم أشار الرجل بما معناه أن تفضل.. فمشى مصطفى بين رفوف متلاصقة عليها حشد من الكتب العتيقة. الكتب التي كتب اسمها على ورق لاصق على الكعب شأن المكتبات العامة.. كانت مجموعة مبهرة فعلاً، وإن كان مصطفى واسع الثقافة مما جعل معظم هذه الكتب معروفًا بالنسبة له..

تولستوي… بوشكين.. هيمنجواي.. موم.. نجيب محفوظ.. فولتير.. توفيق الحكيم.. محمود تيمور.. الطيب صالح… كلهم هنا..

رائحة الكتب القديمة المغرية تملأ خياشيمه.. مشى بين الأرفف متسائلاً عن الكتاب الذي ينتقيه. الغريب أنه كان في المكتبة رف خاص لمجلدات مجلات سوبرمان والوطواط وميكي.. المكتبة اسمها مكتبة الشباب.. لكنها بالفعل مكان مغر جدًا.. من الصعب أن تفكر في كتاب غير موجود..

على أن بعض الأرفف كانت خالية.. لاحظ أن فهرسة الكتب تتم أبجديًا.. وقد كان يتأمل كتب مصطفى محمود ومصطفى صادق الرافعي ومصطفى المنفلوطي.. ثم وجد أن باقي الرف خالٍ تمامًا.. يبدو أن هناك من يستعير الكتب ولا يعيدها هنا.

في نهاية المكتبة توجد غرفة مغلقة.. لكن الباب عبارة عن زجاج مصنفر لا ترى ما وراءه، وكان الباب مغلقًا بقفل ثقيل، فقدر مصطفى أن الشيخ يسكن خلف هذا الباب.. لو كانت المكتبة لا تغلق فمن المؤكد أنه يبيت هنا..

لما دقق النظر أدرك أن القفل موضوع فعلاً لكنه لا يغلق أي شيء.. مثلما نثبت نحن أقفال بيوتنا في موضعها لمجرد عدم فقدها.. كان هناك مقبض في الباب..

خطر لمصطفى أن كل شيء غريب.. نظرة سريعة إلى ما وراء هذا الباب لن تضر أحدًا.. لن يلاحظ الشيخ أي شيء وهو في الجانب الآخر من المكتبة خلف عشرات الأرفف..

مد يده الراجفة وأدار المقبض..

هنا شهق من الدهشة..

يُتبع