قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, June 18, 2017

رحلة في آلة الزمن


"أتلو رسائلنا فتضحكني.. أبمثل هذا السخف قد كنا؟"

هذا البيت لنزار قباني يثير شجوني دومًا، ويجعلني أتفحص أوراقي القديمة بكثير من التوجس. بل إن هذا سبب قوي آخر يجعلني أتهيب العودة لكتاباتي القديمة. أحيانًا أشعر بذهول وخجل لأنني كتبت هذه السطور أو تلك.

الجديد القديم الذي صادفني اليوم هو مفكرة كنت أدون فيها مصاريف البيت، وقد كنت حريصًا على هذه العادة اليومية لأرضي السؤال الذي يتردد في كل شهر: كيف ذهب الراتب في داهية؟

هذه مفكرة صفراء صغيرة كنت أحتفظ بها عام 1997 وترينا نبذة لا بأس بها عن مصاريف الحياة اليومية منذ عشرين عامًا بالضبط. إذن كنت وقتها في طريقي للحصول على الدكتوراه، وكان محمد ابني في الثالثة من عمره، بينما مريم ابنتي لم تولد بعد. تبدأ المفكرة بالكلمات المتفائلة التي توصلت لها بعد لأي: "أعتقد أن 700 جنيه شهريا مبلغ كاف للنفقات!".

أنت تعرف النية الحالية لفرض ضريبة على كل من يزيد دخله على 600 جنيه، وهي نية مستحدثة.. منذ عشرين عامًا كان بوسعك أن تعتبر من يملك هذا المبلغ ثريا.

دعنا نطالع مصاريف عدة أيام:

الأحد 26 يناير 1997: 2 جنيه أرز - 2 جنيه مجلة روز اليوسف - 5 جنيه سمك - 4 جنيه تاكسيات - جنيه ونصف سجائر!.. وهذا يجعل مصاريف اليوم 15 جنيهًا.


السجائر ذات الجنيه والنصف كانت هي الكليوباترا في ذلك الوقت، بينما كانت الأنواع الأجنبية الفاخرة تقترب جدا من ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. من الواضح أن بنديرة التاكسي كانت جنيهين. مجلة روز اليوسف في عهد عادل حمودة كانت بجنيهين وكانت تصدر يوم الأحد، ويستحيل أن تجد نسخة منها بعد الثانية عشرة ظهرًا بسبب نجاحها.

الثلاثاء 28 يناير: هذا يوم خاص، لأنه يتضمن سفرًا للقاهرة، وهكذا نجد أن الإنفاق هو 2 جنيه تاكسي.. 8 جنيهات سفر.. 5 جنيهات تنقلات داخلية بالقاهرة.. جنيه ونصف سجائر.. اليوم تكلف 17 جنيهًا..

في يوم السبت 1 فبرير أكتب بثقة: مناديل ورقية + ريد + زبادي + عشر بيضات = 7 جنيهات!.. علامة التعجب ليست من عندي بل هي مع النص الأصلي دلالة على أنني كنت مندهشًا من معدل الإنفاق العالي.

تستمر معدلات الإنفاق ثابتة تقريبًا، ما عدا يوم الثلاثاء 4 فبراير لأنني أنفقت نحو 132 جنيهًا في معرض الكتاب. وقد اشتريت بعد يوم واحد كعك العيد بأربعين جنيهًا.. واضح أن هذا هو رمضان الشهير الذي جاء فيه معرض الكتاب.

تتوالى الأيام مع حساب المتوسطات، فتدرك أن متوسط الإنفاق اليومي هو 28 جنيهًا..

يوم 18 فبراير تناقش زوجتي رسالة الماجستير، مع ما يستتبعه هذا من نفقات: شرائح العرض - طباعة تقارير - ورود - مصور - حفل جاتوه ومياه غازية للحضور.. هذا يوم خراب تكلف أكثر من 420 جنيهًا..

في اليوم 28 فبراير ظفرت ببنطال جديد.. ثمنه بالقماش والتفصيل هو 30 جنيهًا!

إن تفقد هذا الدفتر ممتع حقا، لكنه مفعم بالأسرار البيتية أولا، ثانيًا يجب أن نتذكر أن الراتب نفسه لم يكن يتجاوز 450 جنيهًا وقتها، ولهذا ظل حلم الـ800 جنيه يلاحقني.

بعد هذا الدفتر بعشرة أعوام أجد لدي نوعًا آخر من السجلات، فقد تغلغل الكمبيوتر في حياتك وصرت تجيد التحكم في برنامج إكسل، هكذا صار بوسعك أن تحسب المتوسطات بسهولة تامة، وترسم معدلات الاستهلاك. لقد صارت الأرقام أقرب للواقعية وبدأ شبح التضخم يظهر بوضوح. الصورة التالية من أحد الملفات يرصد عامًا كاملا:


هذه هي الأعوام السابقة لثورة يناير. ما زلت تقاتل كي تحتفظ بموضعك في الطبقة الوسطى فلا تهبط.. ربما تحاول التسلق. دخلك تحسن، لكن النفقات كانت تتزايد بلا شك. يوم السبت 1 أغسطس عام 2009 تشتري بعض السمك والخضر والتبغ والصابون فتنفق 53 جنيهًا. يوم الأحد تبتاع بقالة بـ75 جنيهًا وتشحن الجوال - الاختراع الشيطاني الجديد - بعشرين جنيهًا.. يوم الخميس 13 أغسطس ثمة مبلغ يثير الاهتمام: 19 جنيهًا بنزين!.. بالطبع كان هذا ثمن 20 لترًا. وفي نفس اليوم تشتري لابنتك آلة حاسبة ثمنها 70 جنيهًا. عامة تكتشف في نهاية العام أن المتوسط اليومي يتراوح بين 165 جنيهًا و312 جنيهًا.. لقد بدأ عصر الغلاء. لكن المدهش هو أن نفس المتوسط ثابت على مدى أربعة أعوام. لم يزدد التضخم وقتها.

مع الوقت كففت عن تسجيل نفقات البيت، لأن الأرقام صارت تثير هلعي، والتفكير في حساب المتوسطات مخاطرة قد تقود للجنون. إن التضخم قد توحش وأصابه السعار، ومعدلاته فاقت معدلات ثلاثين عامًا ماضية.

رغم هذا فإن على المرء أن يتذكر أن هناك فارقًا واضحًا بين ما قبل نوفمبر 2016 وما بعده. يثير دهشتك أنك كنت ثريا بما لا يُقاس وحياتك أسهل بكثير قبل ذلك الشهر اللعين، وقبل أن يصاب الدولار بالجنون فيكسر حاجز العشرين جنيهًا، ويقفز كيلو اللحم إلى 120 جنيهًا ثم 140 جنيهًا . بينما لتر البنزين بأنواعه تضاعف سعره تقريبًا.. عامة يمكن القول إن ثمن كل شيء تضاعف.. الأجهزة الكهربية صار سعرها ثلاثة أضعاف.. الحياة صارت مستحيلة بالنسبة لشريحة هائلة من المجتمع، وقد اكتمل ذوبان الطبقة الوسطى تمامًا.

العبقرية في هذا البلد أنك تعتقد باستمرار أنك قد بلغت القاع، وفي كل مرة تكتشف أن القاع كان بعيدًا وقتها.. هناك قاع آخر أكثر رهبة وظلامًا وينعدم فيه الأكسجين أكثر. أدعو الله أن يقبض روحي قبل أن أتحدث عن الأيام الحالية باعتبارها كانت أيام ترف وعز بالنسبة لما هو قادم. ولأسباب كهذه لا أحتفظ بأي مذكرات حالية ولا أتابع أرقام الإنفاق بتاتًا.. لربما نجحت في إقناع نفسي يومًا ما أن الأمور في الماضي كانت بنفس السوء.