قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, May 16, 2017

رفقاء الليل - 4


رسوم الفنان طارق عزام

حاول بصعوبة وعسر جمّين أن يصوب السيجارة إلى فمه. المبسم يهتز بفظاعة.. يده ترتجف.. لدرجة أنه أطبق بأسنانه بقضمة واحدة على طرف السيجارة كأنه يلتهمها، ثم بدأت مشكلة التصويب على الطرف الآخر بثقاب مشتعل.

ما كان يضايقه أكثر هو نظرات الشك في العيون التي تراقب ارتباكه. هذا يزيد الأمر سوءًا. وقد لاحظ كذلك أنهم يرقبون لهب الثقاب في كراهية وتركيز إلى أن يطفأه..

في سره راح يردد:
- «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»

من مكان ما ظهرت امرأة.. امرأة تمشي منحنية وهي تحمل طفلاً، وقد كان الظلام دامسًا فلم يعرف من هي. لكنه أدرك أن مشيتها غريبة بالفعل، جلست هناك قرب الدائرة وأخرجت ثديها وراحت تلقم الصغير.

قال عم إسماعيل بلهجة ذات معنى:
- «أهلاً بك يا عديلة!!»

عديلة !!…

لو أن الضوء يسمح قليلاً لاستطاع أن يري عينيها اللامعتين ووجهها القبيح المذعور. هذا هو الحيوان الوحيد الذي احتفظ باسمه القديم على ما يبدو..

رأى عم إسماعيل حيرته وذهوله، فأمسك بساعده ودعاه للنهوض معه، وطلب الإذن من الجالسين.. يريد أن ينفرد بنجاتي قليلاً..

لم يرد أحد. فقط تصاعد بعض الزئير وضحك أحدهم ضحكة مدوية عالية يعرفها نجاتي جيدًا.. ضحكة الضباع.. بينما الرجلان يتجهان إلى بقعة خالية قريبة جدًا من بيت الأفيال. هناك في الظلام وبين الأشجار يمكنك أن ترى القضبان والوتد المثبت في الأرض وأكوام التبن..

- «منذ متى ؟»

يقولها نجاتي متقطع الأنفاس. يلهث وينظر إلى الجمع الغامض الجالس من بعيد.

- «أولاً خذ الحذر.. إن سمعهم مرهف وعلى الأرجح يسمعون كل كلامنا، ولو صدقت غريزتي لقلت إنهم يسمعون أفكارنا كذلك. الحيوانات تملك ما هو أمضى من السمع والبصر والشم».

يقولها عم إسماعيل الذي لم يعد يحتاج إلى أسئلة.. لقد صار كلاهما يفهم ويسمع أفكار الآخر، ويردف:
- «ربما منذ عامين.. لا أعرف السبب ولا كيف.. فقط أدركت أن الحديقة مسحورة.. في البدء أصابني الذعر ثم وجدت أنهم رفقاء طيبون لطيفو المعشر.. فقط لا تثر غضبهم.. كل واحد منهم له فتيل يجعله ينفجر، والذكاء هو أن تعرف كيف تتفادى هذا الفتيل!».

- «يغادرون الأقفاص»

ابتسم عم إسماعيل وجفف عرقه:
- «أنت تصدق هذا التحول ثم تندهش لأن الأقفاص تنفتح ليلاً!… كأنك ترى رجلاً يطير فتندهش لأنه لا يصاب بالزكام!.. تستمر الليلة وعند الفجر يعودون للأقفاص التي تنغلق بذات القدرة التي فتحت بها، ويتم التحول..»

- «رشدي رأى هذا كله؟»

في حزم قال عم إسماعيل:
- «أمرتك ألا تسأل.. طلبت منك أن تنسى. امض الليل معهم وتمتع بصحبتهم فقط».

- «وبسيوني.. هل يعرف؟».

قال إسماعيل في غموض:
- «بصراحة لست واثقًا… لو كان يعرف فقد أخفى هذا ببراعة عني. لكن ما أعرفه عنه هو الحمق والاندفاع.. لا يقدر على حفظ سر أكثر من نصف ساعة. لو عرف لتكلم في كل مكان. على الأرجح لم يتم التحول في الليالي التي يسهر فيها..»

قال نجاتي في عصبية:
- «هناك شيء واحد.. أنا لن أمضي الليل هنا.. سوف أمضيه في الغرفة الضيقة. سأغلقها علي، فخذ الشيشة لو كنت تريد التدخين..».

بطريقة من يعرف هذا كله من قبل، قال إسماعيل:
- «لا بأس.. توقعت هذا.. سوف تحتاج لوقت طويل كي تفهم وتعتاد.. افعل ما شئت، ولكن لتعرف أن ما تراه هنا سيظل سراً.. قلت لك إن لهم فتيلاً فلا تدس عليه».

لم يرد نجاتي.. مشى في الظلام مبتعدًا وهو يتحسس السور الحديدي المدبب. من بعيد يرى طاووسين يفردان ريشيهما في غزل ليلي مع الصوت المميز، ثم يرى ثعالب الفنك تتسلق السلك الشائك في أقفاصها، ويصدر الفيل صوتًا عميقًا مليئًا بالشجن..

كانت هذه غرفة الحراس بضوئها الخافت. دخلها وبحث حتى وجد الشيشة المفككة والفحم فأخرج هذه الأشياء للخارج، ثم أغلق الباب على نفسه والتف بالبطانية، وراح يرتجف.. كأنه محموم…

مد يده يعبث في مفتاح جهاز الراديو، وسرعان ما سمع صوت الست يغني:
- «أغدًا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غدي»

لو كان في ظروف أخرى لطرب وراح يهز رأسه منتشيًا، لكنه كان الذعر مجسدًا. الهاتف الخلوي معه، لكنه لا يجسر على أن يتصل بأحد، ولو اتصل فماذا يقول؟ وماذا لو عرفوا نواياه؟

هذه الرائحة!!

الرائحة الحيوانية المميزة لأقفاص الضباع.. من أين تأتي؟

كان يعرف.. النافذة الصغيرة المدعمة بالقضبان الموجودة فوق رأسه، وتذكره جدًا بنوافذ السجون أو عربة الترحيلات. هذه النافذة مسدودة.. كتلة سواد تغلقها وتحجب السماء. يمكنه أن يسمع الزئير المكتوم ويرى لمعان العينين. هناك من يراقبه من الكوة ليرى ما يفعله وحده في الظلام.

هناك يمكنه أن يرى عم إسماعيل جالسًا مع تلك الكائنات..

- «هل أنت مطمئن له؟»

- «أنا أثق فيه كنفسي.. نجاتي ولد طيب»

- «الأولاد الطيبون قد يتكلمون»

- «أنا أعرف أنه خائف مذعور.. الخائفون مطيعون، والمذعورون لينو العريكة»

- «إن كنت مخطئًا فهو الندم ثم العقاب.. أو هو العقاب فالندم»

كان نجاتي يفكر في عمق.. ليس بوسعه أن يرفض أو يقبل هذا الوضع. لقد صار في اللعبة ولا يستطيع التملص. لكنه لا يريد.. لقد عرف سرًا لا يريد أن يعرفه، وتحمل بأمانة لا يريد حملها.

من أين بدأت هذه اللعنة؟

الإجابة التي كان إسماعيل يراها بوضوح هو أن هناك فجوة شيطانية في هذه الحديقة. عملية الحفر التي استغرقت شهرًا جوار أقفاص الزراف ثم توقفت لأن هناك بئرًا حجرية غامضة. بعد تفكير قرر المهندسون أن يغيروا موضع الحفر، وأهالوا الحجارة على موضع البئر ونسوا كل شيء عنه. عم إسماعيل يعتقد أن الظاهرة بدأت بعد هذا.. الجان تحت الأرض قد استولوا على الحيوانات. نجاتي لا يعرف هذا بالطبع ولو عرفه لما صدقه. لا يهم.. هذا لن يغير الحقيقة..

لن يبقى هنا لحظة أخرى..

ربما لو ظل حتى الصباح ثم يكون أول شيء يفعله هو أن يستقيل. لكن النفور الذي ألم به جعله عاجزًا عن تحمل دقيقة أخرى..

النار.. لقد رأى كيف أن النار تخيف هذه الكائنات وتبعدها..

كانت هناك زجاجة كيروسين جوار الموقد. أخذها وأخذ البطانية والموقد نفسه وبحذر فتح الباب متوقعًا أن يجدهم جميعًا بالخارج. لكن لم يكن هناك أي منهم. سكب الكيروسين على العشب.. ثم سكب بعضه على البطانية، وأشعل السائل الملتهب… ثم قلب الموقد المشتعل..

في اللحظات التالية استطاع أن يصنع أكبر فوضى ممكنة.. صار هناك ستار من النار يفصله عن الوحوش، وهو يعرف أن سور الحديقة على بعد عشرين مترًا.. هناك فجوة مهدمة تسمح بالوثب للخارج..

قلبه يتواثب!.. توقف قليلا!… لا تفقد وعيك يا نجاتي!

قلبه يتواثب..

يتواثب..

للحظة غامت الدنيا بسبب تسارع الضربات لكنه استعاد الوعي سريعًا وجرى نحو الفجوة… سمع الضوضاء من بعيد وسمع زئيرًا، لكنهم كانوا قد تأخروا جدًا..

السور.. يتسلقه.. يجلس على قمته، ويوشك على الوثب لكنه يسمع صوتًا يتوسل:
- «نجاتي!.. عد يا بني!.. لا تثر غضبهم!.. إنهم…………………»

كان هذا هو إسماعيل الذي وقف على الجانب الآخر من اللهب يحاول العبور ويصرخ..

لم يصدق نجاتي ما رآه.. لقد طار جابر الشبيه بالضبع مترين في الهواء، ثم هبط فوق عم إسماعيل.. ودوت صرخة هلع، ثم اختلط كل شيء، لأن جابرًا كان يلتهم شيئًا واقعًا هناك وسط العشب والظلام… كان يضحك ضحكة ضباع لا شك فيها..

ومن بعيد جاءت أسرة الزناتي تركض..

كان هذا كافيًا لنجاتي كي يثب من فوق السور إلى الشارع الخالي المظلم..

آي!.. هل تهشم كاحلي أم هو مجرد التواء؟

يُتبع