قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, January 4, 2017

نصال على نصال


The Economic Times

يقول العبقري المتنبي في بيتين من أبياته التي لا تشيخ أبدًا:
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى    فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ    تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ

أي أن كثرة السهام صنعت حول قلبه غلافًا واقيًا يجعله لا يشعر بأي سهام أخرى. وهذا هو حالنا حاليًا. في كل يوم كارثة أو قصة غريبة أو فضيحة، بحيث فقدنا بالفعل القدرة على الدهشة أو التألم. ما زلت أرى في منامي ذلك المشهد الكابوسي، أنه وقد وصلت الأمور للحضيض طلب الناس من مبارك أن يعود ويحاول إصلاح الأمور. يجلس ويطلب فنجان قهوة، ويرفض السيجارة لأنه ما زال يهتم بصحته،  ثم يتأمل حال البلاد ويقول:
ـ"يخرب عقلكم.. ما دام ما بتفهموش في الحاجات دي بتلعبوا فيها ليه؟"
ـ"سعادتك فيه أمل؟"
فيهز رأسه في غموض:
ـ" حأحاول أصلح بس مش ضامن النتايج.. احتمال تحتاجوا  بلد جديدة"


ثم بعد قليل يطلب أن نرسل من يشتري له مانيجا وباتير ووزرة ومسامير شيشة من محل قريب، ثم يطلب أن نخرج له العادلي ونستدعي زكريا عزمي وأحمد عز. هنا كنت أفيق من الكابوس غارقًا في العرق، وأنا أدرك أن مبارك ليس الحل بل هو المشكلة، وأن سبب كوارثنا هو الصراع مع عصره الذي لا يريد أن يرحل، لكننا وُضعنا بالضبط في الجو النفسي الذي يشعرنا بأن أيامه كانت رائعة.

سوف أتجنب الكلام عن أشياء كثيرة أغلبها مُنع النشر فيها، وأتكلم عن الغلاء.. الشيء الذي يمسني ويمسك ويمس ابني ويمس ابنه لو استطاع أن يتزوج. في كل يوم تصطدم بأرقام جديدة، عن سعر العدس أو الزيت أو الأرز أو البنزين أو اللحم، فإذا كانت طموحاتك أعلى سمعت أسعارًا مخيفة للتلفزيونات والسيارات والثلاجات.. أرقام لو سمعتها منذ ثلاثة أشهر لاعتبرت أن محدثك يمزح مزاحًا قاسيًا أو أنك – ببساطة – في كابوس.

في الأسبوع الماضي سمعت أكثر من رجل بالغ يؤكد أنه صار عاجزًا تمامًا عن إطعام أطفاله، ثم ينفجر في البكاء. نتحدث عن إطعام الأطفال وليس عن تزويجهم طبعًا. أعتقد أن الزواج صار نوعًا من أدب الخيال العلمي بالنسبة لمن ليس أبوه رجل أعمال أو مليونيرًا. لو لم يكن هذا فشلاً للحكومة فكيف يكون الفشل؟ والسؤال هو: لماذا لا ترحل هذه الحكومة؟ تذكرت رجلاً في أمريكا اللاتينية كان يقول لصاحبه: "إن حكومتنا كالمايوه البكيني.. مكشوفة للجميع.. لا يمكنك فهم المعجزة التي تبقيها في مكانها.. الكل يتمنى أن تسقط لكنها لا تفعل!". وقبل المحاولات الفاشية للصيد في الماء العكر كالعادة، أكرر إن الحكومة غير الدولة، ومن يحكم مصر ليس مصر. أرجو أن تنسى قليلاً تلك الفاشية التي بدأنا ندفع ثمنها كما هي القاعدة التاريخية. كل الشعوب التي سمحت للفاشية بأن تنتشر انتهى أمرها.

المشكلة أنه لا توجد وعود. الجائزة الوحيدة للصبر – كما يؤكدون لك – هي المزيد من الصبر. هذه ليست بداية النهاية – يقولون – بل هي بداية البداية. بالتالي لا يوجد أي ضمان لمنع الدولار من بلوغ مئة جنيه خلال شهرين، أو أن يصير كيلو اللحم بثلاثمئة جنيه.. يقولون لك: اصبروا .. القادم ألعن.. ومن وقت لآخر يظهر مذيع ليؤكد أن السنة القادمة سوداء. اصبروا.. في الوقت نفسه تظهر الأخت المذيعة لتشتم الشعب لأنه جشع يريد أن يأكل ثلاث وجبات. "الأسعار (اختبار من ربنا) مش من (القيادة السياسية) عشان يشوف هل أنتم مؤمنون بحق". بالمناسبة هي تقول إن الحديث الشريف يطالبنا بثلاثة أرباع بطن. الحديث يتحدث عن ثلث لطعامك وثلث لشرابك وثلث لنفسك..

نغمة أن الشعب هو المسئول عن تعاسته نغمة عالية جدًا هذه الأيام، والحقيقة أنه مسئول فعلاً لأنه شعب ساذج ينخدع بسهولة بالغة. بينما الأزمة الاقتصادية سببها بالأساس دمار السياحة - وهي بالأساس غلطة الأمن - والمشاريع العملاقة التي ليس هذا وقتها أبدًا، مثل التفريعة والعاصمة الجديدة، وصفقات السلاح الباهظة، وقرض الصندوق الدولي مصاص الدماء. كلها أشياء لم نُستشر فيها ولم يطلب أحد رأينا.

هكذا خطر لي أن أتزعم حملة وطنية تطالب السيدة المذيعة وغيرها من المذيعين شديدي الوطنية بأن يتبرع كل واحد منهم بمليوني جنيه فقط سنويًا لمصر، على أن يتم هذا بشفافية بحيث نعرف أين ذهب التبرع. هذه فرصة العمر التي تتيح لهم إظهار وطنيتهم الجياشة. نريد أن نتعلم منهم.

حل مشاكل مصرالاقتصادية لا يمكن أن يقوم على مزيد من الصبر والجباية. أسلوب (تلبيس عمة ده لده) لعبة مسلية يمارسونها في مولد السيد البدوي في قريتي مع الفلاحين، لكنها لا تصلح لإدارة دولة. خذ جنيهًا من هذا وأعطه لهذا ثم خذه منه وأعطه لثالث. في النهاية هو جنيه. يمكن أن أقدم قائمة بالحلول التي قدمها خبراء جادون منهم من نشرها في صحف ومنهم من كتبها على النت، وهي حلول معقولة جدًا لو كانت هناك إرادة للحل فعلاً. مصر ليست بلدًا فقيرًا أبدًا ويمكنها أن تنهض وتصير أسدًا إفريقيًا.

في فيلم بورات يتبرع الممثل البريطاني العنصري ساشا بارون كوهين بالنفاق لجمهور أمريكي، فيدعو الله أن يتحول العراق لساحة انتظار سيارات  كبيرة! هذه دعوة تحققت إلى حد ما، وعلينا أن ننقذ مصر من مصير مماثل