قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, October 1, 2016

تراجيديا الأسبوع



جاء غرق مركب رشيد في موعده بالضبط باعتباره الكارثة الأسبوعية التي ننتظرها: قطار يخرج عن الخط.. حريق.. سقوط طائرة.. فلم يتأخر كثيرًا وكان على العهد به. بعد هذا بأسبوع فر فهد من مزرعة خاصة والتهم طفلة في التاسعة، فكان هذا هو موعد التراجيديا الأسبوعية الجديدة. دقة مواعيد مذهلة كما ترى.


حادث الغرق مروع بلا شك، ويحمل روائح كئيبة من قصة غرق العبارة في 2 فبراير عام 2006. وهي مأساة انتهت بغرق 1200 مواطن بائس عائد لأهله في الوطن. مالك العبارة وولداه غادروا مصر إلى لندن عبر صالة كبار زوار المطار. وشاعت في المجتمع المصري مقولة إنك إذا قتلت واحدًا تُعدم، أما إذا قتلت ألفًا فأنت تغادر مصر من صالة كبار الزوار لتعيش عيشة الملوك في لندن..

حادث مركب رشيد قد قُتل بحثًا وتكلم عنه الجميع، فلا جديد نضيفه سوى محاولة تبرئة هؤلاء البؤساء الذين قصف الإعلام المصري جبهتهم، وأبدى الشماتة الواضحة فيهم، كما انهال هجوم الجميع بمن فيهم رجال الدين باعتبار ما حدث كان هجرة غير شرعية، فلو تعاطفت الجهات العليا مع هؤلاء البؤساء، لتغيرت لغة الخطاب الإعلامي للعكس تمامًا ولاعتبروهم شهداء. كان من الغريب أن ترى مشاهد اعتقال الناجين، وأن يفقد رجل امرأته وأولاده في البحر ثم يُكبّل بالأصفاد، وهو ما يعبر عنه هذا الكاريكاتور العبقري الذي لا أعرف اسم صاحبه للأسف


تكررت كذلك نغمة أن كل واحد من هؤلاء قد دفع ثلاثين ألف جنيه للهجرة، فما أكثر المعجزات التي كان يمكنه تحقيقها على أرض وطنه بهذا المبلغ!. بالطبع قام كل منهم بجمع هذا المبلغ عن طريق الاستدانة وبيع مصوغات (الحاجة) وكتابة إيصالات أمانة.. إلخ.. هل يمكنك التفكير في مشروع يمكن أن ينجح ويكون رأس ماله ثلاثين ألفًا فقط؟ طبعًا باستثناء زرع الفراولة على السطح كما قال أحد العباقرة.. 

اقترح أحد الأذكياء – حذفت اسمه لأنني لم آخذ إذنه بالنشر – هذه الأساليب الناجعة لاستثمار ثلاثين ألف جنيه فالوصول للثراء: 


يجب أن يدرك الشامتون أن هؤلاء القوم لم يتحملوا المخاطرة وسط موج البحر المتلاطم ومع زوجاتهم وأولادهم، ومع مهرب نصاب على الأرجح، لأنهم يحبون هذا. لقد فعلوه لأن الحياة صارت شبه مستحيلة بالنسبة لهم، وقد صرح بعض الناجين بأنهم سيكررون المحاولة من جديد لأنه لا يوجد سبيل آخر أمامهم. وفي نفس الأسبوع كنا نقرأ عن زحام الناس أمام وزارة التضامن للحصول على شهادة فقر. لقد اختار المهاجرون بين موت أكيد وموت محتمل. تذكر عدد المصريين الرهيب الذي يقترب من المليون في ليبيا، وحتى بعد مشاهد الذبح الداعشية الشهيرة لم يعد سوى خمسين ألفًا بينما فضل الباقون اختبار أقدارهم. 

قبل أن تتهم شهداء المركب بالحماقة وانعدام الوطنية والكفر، يجب أن تتذكر أنهم لم يفعلوا سوى تنفيذ حشد من نصائح السادة الإعلاميين، الذين اقترحوا عليهم أن يهاجروا..

هنا تامر أمين يربط بين مصر وحكامها – كالعادة – فمن يهاجم هذا يهاجم ذاك، ويطالب من لا يروق له الأمر بالرحيل وأن يغور. بل إنه ينصحهم بالانضمام إلى داعش. 



وماذا عن عمرو أديب؟ يطالب من لا يعجبه الأمر أن يروح في ستين داهية. يبدو أن ستين داهية مكان محدد له إحداثيات جغرافية دقيقة على الخارطة.

هنا مونتاج ممتاز أو ميدلي لمجموعة ممتازة من (الباب يفوت جمل وغوروا في ستين داهية). مع تساؤل واضح من عمرو أديب: "انتم ليه ما بتهاجروش؟". هذا ما تم بالضبط وبلا مبالغة أو نقصان. هم هاجروا وشربوا من البحر وراحوا في ستين داهية. يجب ان تسعدوا بكون كلامكم ذا تأثير قوي لهذه الدرجة.

تسرب موضوع (غوروا في ستين داهية) حتى إلى كلام رجل الشارع كما نرى هنا.

من حق هؤلاء السادة الإعلاميين الدفاع عن ملايينهم التي ترتبط برضا النظام وبقائه، وأن يسخطوا على من يحرجه، لكن ليس من حقهم أن ينهالوا بالشماتة والهجوم على الشباب الذين لم يفعلوا سوى ان أطاعوهم حرفيًا. 

*******

نقطة أخرى تبعث الابتسام وسط كل هذا الجوالكئيب، هي هذا الكلام عن خلية مهمتها إثارة التشاؤم لدى الناس، وهي لعمري أغرب تهمة يمكن أن تسمعها، فلا تضاهيها إلا جريمة التفكير في رواية أورويل الرائعة 1984. هذه التهمة قادرة وحدها على القضاء على مناخ التشاؤم المزعوم. وهي تذكرنا كثيرًا بقانون العيب الذي وضعه السادات عام 1980 والذي أطلقوا عليه (قانون هيكل)، ومعنى هذا أنه صُمم خصيصًا للانتقام من محمد حسنين هيكل، حتى أوشكوا أن يضمنوا القانون معاقبة كل صحفي يبدأ اسمه بحروف الميم والحاء والهاء. قانون يمتلئ بعبارات هلامية تصلح لأي شخص تريد أن تخرب بيته، مثل أن يدعو للتحلل من القيم الدينية أو ينتقد سياسة الدولة أو يظهر عدم الولاء للوطن. الرائع أحمد بهاء الدين وصف القانون بكلمة واحدة: "كارثة".

الداخلية لا تعيد لك سيارتك المسروقة، ولا تحمي ابنتك من التحرش او الخطف، أو أرضك من وضع اليد، ولا تتدخل في أي مشاجرة إلا بعد انتهائها، لكنها قادرة على شم النوايا التشاؤمية لدى الناس حتى صار من الضروري أن تمشي مبتسمًا حتى لا يتم اعتقالك.