قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, June 14, 2016

تَنصُّت - 1


رسوم الفنان «طارق عزام»

عندما وجد عماد جثة مصطفى الملقاة كالشيء في ركن الشقة، وقد تهشم عنقها والتوى، ورأى نظرة الرعب في العينين، أدرك أن اللعبة دخلت طورًا خطيرًا ..

للحظات تذكر وجه مصطفى الودود والنظرة شبه الناعسة في عينيه، وهي نظرة تعود أن يراها في صور من ماتوا. طريقته في الكلام ببطء مع انتقاء الكلمات .. حكمته .. الطريقة التي يجد بها حلولًا لأعقد المشاكل. لقد خسر العالم عقلًا ثريًا، لكن أفضل شيء في هذه الأمور هو أن العالم لا يشعر بالثكل .. يفقد عقلًا او لا يفقد .. ما المشكلة..؟

ركل العوينات المهشمة الملقاة على بعد أمتار، وقرر أنه سيغادر المكان. لا يريد التورط بأي شكل في هذا المشهد.

توقف للحظة، ثم بحث عن مفاتيح المختبر.. لا بد من شخص يكمل العمل.. يعرف أنها مهمة غير هينة.. يعرف أنها مسئولية ساحقة .. يعرف أن معلوماته الفيزيائية تفوق الصفر بقليل، لكنه يعرف كذلك أنه مثابر وبوسعه أن ينجح في أي شيء يريده، باستثناء عزف الكمان طبعًا … لا أحد يجيد الموسيقى لمجرد أنه أراد ذلك.

********************

حقًا كان مصطفى يجيد عزف الموسيقى، وكان يمسك بالكمان ويداعبه بالقوس فتشعر أنه يمزق نياط قلبه نفسه .. عندما تتكلم قطعة الخشب وتهمس بقصة حب منسية .. 

عاد مصطفى من ديلاوير في أوهايو بالولايات المتحدة مؤخرًا، وكان يدرس الفيزياء ويدرّسها … الثانية براء مشددة .. إنه من تلك العقول المذهلة التي يتكلم عنها المصريون عندما يريدون إثبات أنهم ينجحون في الخارج دائمًا ويفشلون في الداخل دائمًا .. الأمل المقدس لكل شاب يحمل مظروف الأوراق ويقف أمام القنصلية أو السفارة الغربية، ورأسه مفعم بالأحلام، ويعتقد واهمًا أو محقًا أنه من ذات الطراز الذي يتوهج في الخارج.. 

عندما عاد مصطفى زاره صديق طفولته عماد .. كلاهما في الأربعين، وكلاهما غير متزوج، على أن أحدهما عبقري في الفيزياء، والآخر عبقري في بيع السيارات .. والحقيقة أن أحدهما كان غير قادر البتة على منافسة الآخر ..

عندما زار عماد الرجل في مختبره الذي استأجره في المقطم، وجد أن المكان أقرب لستوديو صوت على قمة بناية عالية .. 

ـ«ماذا تفعل بالضبط ؟»

ـ«لا شيء»

بدا هذا سببًا كافيًا للعودة من الولايات المتحدة فعلًا. أن تعود لوطنك لتعمل لا شيء. التهام شطائر الطعمية وشرب الشاي ثم عزف الكمان لعدة ساعات ..

لكن (عماد) بعد قليل بدأ يفهم أن صاحبه العبقري يقوم بعملية معقدة جدًا، هي الإنصات إلى أصوات الفضاء ..

هناك جهاز اتصال كبير في الغرفة .. جهاز يشبه ثلاجة فول أوتوماتيك كاملة، وهناك حزمة أسلاك تتصل بجهازي كمبيوتر.. وهناك ما يشبه الطبق الموجه للفضاء، بينما يعتمد مصطفى على سماعتين يصغي بهما معظم الوقت ..

كان قد رأى فيلم (اتصال) الذي كتب قصته العالم وأديب الخيال العلمي كارل ساجان، ويعرف شيئًا عن هذه الأمور، على الأقل يعرف كيف تبدو من الخارج ..

قال له مصطفى:
ـ«أقضي الساعات هنا أصغي للفضاء .. هناك كثيرون منا في أرجاء العالم وكلهم يفعلون الشيء ذاته»

قال عماد في استخفاف:
ـ«لا أعرف جدوى ما تقومون به، لكني أراهم يتعاملون مع مراصد عملاقة . لم أرَ أحدًا يتعامل مع طبق كأنه يريد التقاط أفلام عارية من القمر الأوروبي!»

لم يشاركه مصطفى السخرية .. كان جادًا جدًا …
ـ«هذا هو ما قمت به .. أنا توصلت للحصول على نتائج ممتازة من هذا الطبق الصغير الذي تتكلم عنه»

في الأيام التالية زار عماد صديقه مرارًا في ذلك المختبر وبدأ يألف الجو .. يألف الأجهزة والخرائط وصوت مكبر الصوت الرتيب.. 

أخبره مصطفى أن هذا الذي يقوم به جزء من مشروع SETI . بالطبع لم يفوّت عماد فرصة السخرية من أن الاسم يذكره بـ (ستي وسيدي)، لكن مصطفى لم يكن في مزاج رائق للمزاح ..

قال له إن SETI هي الحروف الأولى من جملة search for extraterrestrial intelligence أي البحث عن ذكاء غير أرضي. باختصار: محاولة إثبات أن هناك كائنات فضائية. جزء كبير من هذا المشروع هو استقبال الإشارات القادمة من الفضاء ومحاولة فهمها. هذا شيء يفهمه كل من رأى الفيلم أو قرأ رواية (اتصال) كما قلنا. وقد بدأ الإنسان هذه المحاولات منذ اختراع الراديو حتى اليوم.

من وقت لآخر تطالعنا الصحف بخبر عن التقاط إشارات غير أرضية من الفضاء. أشهر هذه القصص وقع عام 1977 حينما التقط عالم الفضاء إيهمان إشارة ضيقة الحزام، استمرت 72 ثانية ولم تتكرر بعدها قط. كان ذلك من تلسكوب شهير اسمه (الأذن الكبرى) في أوهايو. كانت الإشارات قادمة من كوكبة (القوس). هذه الإشارة أثارت ذهول الرجل، فكتب جوارها (واو ! Wow) وهذا هو الاسم الذي عرفت به هذه الموجة في الكتب العلمية. موجات (واو).

يقوم العلماء بتحويل الإشارات لشفرة معينة يعرفونها .. مثلًا الواو هي 6EQUJ5 .. وهي تحدد شدة الموجات والمسافة بينها .. ثم يحددون بالتقريب مصدر الموجات، وهو هنا نجم اسمه تاو ساجيتاري. هذه موجات قوية جدًا وغير مسبوقة خضعت لتفسيرات عديدة.. حتى ليهمان نفسه قال إنها على الأرجح جاءت من مصدر أرضي انعكس على سحابة غبار كوني. لكنه كذلك لم يستبعد أن يكون هناك مصدر غير أرضي.

هناك علماء كثيرون قالوا إن علينا قبول حقيقة أنه لا توجد عوالم أخرى .. لا توجد كائنات فضائية. ما يحدث في سيتي هو علم زائف لا يمكن إثباته.

في العام 2007 تم التقاط إشارة قوية متكررة .. وهو ما يسمونه FRBS أو انفجارات راديو سريعة. حسب العلماء أنها تصادُم نجومٍ نيوترونية ثم تبين أنها متكررة بشكل لا يمكن أن يكون فيزيائيًا .. لا توجد بطارية تعيد شحن نفسها بهذه السرعة. 

كان مصطفى يفتخر بأنه استطاع تشييد نظام للتنصت لم يكلف إلا ملاليم، ويمكن به الاستغناء عن تلك المراصد العملاقة المخيفة المصوبة للفضاء.

تساءل عماد الذي فهم عُشر هذا الكلام بعسر بالغ:
ـ«ما جدوى ما تقوم به؟ سؤال وجود كائنات فضائية أم لا، يُطرح منذ عرف الإنسان الفضاء ومن الواضح أننا لن نعرف إجابته أبدًا»

وقف مصطفى أمام لوحة مليئة بالحروف والأرقام معلقة على الجدار، وقال:
ـ«عندما نثبت أن هناك كائنات فضائية حقًا، فلن يتساءل أحد بعدها عن الجدوى .. أنت تفهم هذه الأمور .. لو لم ينجح جراهام بل في اختراع الهاتف لقالوا إنه مخبول يكلم البلاستيك .. عندما نجحت فكرته قالوا إنه عبقري. ما يفصل بين أن أكون مخبولًا أو أكون جاليليو القرن الواحد والعشرين هو أن أثبت كلامي .. وكلامي يقول إن هناك إشارات فضائية فعلًا.. وهذه الإشارات تقول شيئًا .. اللغز مُضنٍ ومعقد، لكني اقتربت جدًا من الحل».

يتبع