قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, February 23, 2016

من دون هيكل


رحل هيكل. لحظة حتمية متوقعة جدًا مع رجل جاوز التسعين من العمر، لكنك لن تنكر أوجاع استئصال قطاع كامل من حياتك وذكرياتك وثقافتك بهذه البساطة.

لقد ترك هيكل ذكرى قوية، وترك مكتبة هائلة عظيمة القيمة، وترك جدلاً لا ينتهي حول شخصه وهل هو ملاك أم شيطان، وترك كذلك كراهية حاقدة لدى شانئيه الذين لم يغفروا له قط أنه ينتمي لعالم عبد الناصر، وفي قول آخر أنه صانع عالم عبد الناصر. هل كان هيكل ناصريًا أم كان ناصر هيكليًا أم أن الصديقين أثرا في بعضهما بنفس القدر؟.. لن نعرف أبدًا. على كل حال لقد امتزج بعبد الناصر جدًا، لذا سيظل من يكرهون عبد الناصر هم الذين يكرهون هيكل. ولسوف يستمر الجدل حول الرجل خمسين عامًا آخر كما طال نيفًا وخمسة وأربعين عامًا بعد وفاة عبد الناصر. شاهد في هذا الكليب هيكل يحكي عن تجربته مع ناصر.


بالتأكيد لم يكن هيكل ملاكًا ولم يكن أعظم رجل على ظهر البسيطة، لكنه – بالنسبة لي على الأقل – فنان وأديب قلما ظهر مثله في العالم العربي، ولقد اختلفت معه سياسيًا بشدة وبالذات في سنواته الأخيرة، ولكني لم أكف عن احترامه والانبهار ببراعته وذكائه. لم يكن الأنبل لكنه بالتأكيد الأبرع والأروع.

بيت ناصري يعشق عبد الناصر مثل بيتي، كان لابد أن يحمل تقديرًا خاصًا لهيكل، وكان أبي يطالع سطور مقاله الأسبوعي (بصراحة) قبل صلاة الجمعة، في حرص كأنه كتب بماء الذهب. لم أكن أفهم وقتها سبب تضييع وقته في هذا الكلام الممل. بشكل ما أعتبر عمو هيكل من شلة أبي، هو وعمو صلاح جاهين وعمو توفيق الحكيم وعمو عبد الوهاب وطانط أم كلثوم.


بعد وفاة ناصر قرأت كتاب (عبد الناصر والعالم) لهيكل، ولم أهتم به كثيرًا. طبعًا كنت بعقلية طفل في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي! لكني بدأت أعرف هيكل جيدًا وأسمع اسمه مرارًا في عصر السادات. السادات الذي اعتبره عدوًا شخصيًا له بعد مفترق الطريق في حرب أكتوبر، وكان ذلك هو الوقت الذي عرفت فيه مبدأ (من ينتقد الرئيس هو عدو مصر) الذي لا يفارقنا أبدًا، ولم أعرف قط أنه موجود في البلاد؛ لأن أقلام الكلاب المسعورة أقنعتني بأنه باع نفسه لليبيا أو للبعث ويعيش هناك. اتهموه وقتها بأنه يبيع الكلمة بدولار.. لم أر عيبًا في هذا، بل هو داع للفخر. ما المانع في ان أبيع الكلمة بدولار ما دامت صادقة ومادام هناك من يشتريها؟ ما مشكلة ان يصير المرء مليونيرًا بقلمه؟

كانت بعض كتب هيكل تباع كأنها مخدرات قادمة من بيروت.. ثم قانون العيب الذي قيل إنه صمم خصيصًا لهيكل، على طريقة القانون الذي صمم لعزل هشام جنينة. منصب المدعى العام الاشتراكي.. التحقيق مع الرجل.. سبتمبر.. الاعتقال.. الحرية..


نسخة مهربة من كتاب خريف الغضب الممنوع نخفي عنوانها. أصورها مع صديق لي في مكتب نسخ مستندات نعرف يقينًا أن صاحبه يتعامل مع مباحث أمن الدولة.. الفتاة التي تقوم بالنسخ ترى صور خالد الاسلامبولي وهو يفرغ الرشاش في المنصة، وترى صور السادات. تسألنا عن اسم الكتاب فنؤكد أنه خريف الغضب الذي كتبه السادات، فتمصمص بشفتيها وتقول:
ـ"يا سالام !.. باتل الحرب والسالام"

بهذا المنطق يكون السادات في مذكراته قد وصف عملية اغتياله ووضع صورة لها!.

في البيت رحت بنهم أقرأ كل كلمة كتبها الرجل.. وكنت أفرغ من ورقة منسوخة فأناولها لأبي الذي يقرأ الكتاب في ذات اللحظة متأخرًا عني بصفحة. أيقنت أن الرجل بارع بحق ورحت ألاحق كتبه في كل مكان. وجدت في مكتبة البيت كتابه الأول (إيران على حافة البركان)، وأثار ذهولي. المخبر الصحفي بالمعنى الحرفي للكلمة الذي يدرس كل شيء عن الموضوع، ثم يذهب هناك بالفعل ويقابل كل أطراف الصراع ويصغي لوجهات نظرهم: الشاه – آية الله كاشاني وأتباعه – مصدق – جنرال رزم آره. هذا نوع غريب من الصحافة يختلف عن صحافة (الإفتاء في مقعد وثير) الذي أعرفه. اعترف مفيد فوزي أن هذا الكتاب هو سبب حبه للصحافة.


رحت ألاحق كتابات هيكل كلها. معظم العناوين صارت عندي، كان كل كتاب يلقى حفلاً صغيرًا في مكتبتي. يمكنك بسهولة أن تدرك أن الرجل خليط من أديب بارع وجهاز مخابرات متمكن وجامعة مليئة بالوثائق. على وجه اليقين لم يخبرنا هيكل سوى بـ 40% من الأسرار التي يعرفها، فقد كان ثابت الجنان يعرف كيف يخفي المعلومة ولا ينبهر بها أويعلنها كطفل. لقد قاوم شهوة الظهور كعليم بكل شيء.

هناك كتب تم توثيقها بشكل غير عادي مثل (بين الصحافة والسياسة) الذي تكلم فيه عن قضية تخابر مصطفى أمين في حياته، وطالب بإعادة المحاكمة لكن أحدًا لم يرد. هناك كتب لم تُترجم وأتمنى بصدق لو نقلت إلى العربية، مثل كتاب (أبو الهول والقومسيير) الذي يحكي أسرار العلاقة العربية السوفيتية، وكيف أن العرب يقلعون دائمًا مع الاتحاد السوفييتي ثم يهبطون بطائرات أمريكية.

هنا عرفت هيكل الأديب، وبدأت أتذوق أبيات الشعر التي يضمنها، أو القصص التاريخية الغريبة، أو تعبيراته الأدبية التي يصكها ثم يستعملها الجميع فيما بعد، على غرار (مارد التدين الذي غادر القمقم ولم تعد أي صلوات قادرة على إعادته) و (العرب يقلعون بطائرات سوفيتية ويهبطون بطائرات أمريكية) و(الفارق بين التذكر والذاكرة) و(هو بالجغرافيا ضروري وهو بالتاريخ محتوم) و(الحرب هي استمرار الدبلوماسية بشكل آخر) و(عندما يستخزي طرف فهو بذلك يدعو الطرف الآخر إلى أن يستأسد).. إلخ... أنت تتعلم الكثير من الأدب مع مقالات هيكل السياسية، ومقالات جلال أمين الاقتصادية، ومقالات سامي السلاموني السينمائية.

عامة أعتقد أن نضج هيكل اكتمل جدًا في ثلاثية السويس – 1967 الانفجار – 1973 السلاح والسياسة.. ثم وصل لذروة شامخة في ثلاثية المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، التي اعتمدت على توثيق غير مسبوق. السيمفونية تقترب من نهايتها وتتسارع (أليجرو) مع مقالات مجلة وجهات نظر، التي قرر أن يقدم فيها المقال السردي الطويل narrative article ، وفي النهاية قرر أن يصمت باستثناء بعض اللقاءات التلفزيونية التي لم أتحمس لها كثيرًا لأن الكاميرا ليست أرض ملعبه، وخيط الكلام يفلت منه كثيرًا.

مع وفاة هيكل كثرت شماتة الشامتين كأن هؤلاء ضمنوا أنهم لن يموتوا. على طريقة (هو مات ونحن لا..!). وبشكل لا يتفق البتة مع طباع الفروسية تجاه خصم ذهب للقاء ربه. ولأجل اعتبارات سياسية ضيقة سوف يتهمونه في شرفه ودينه، وقد امتلأت النت بكليبات التشفي ولما يمر يومان على الوفاة. شاهد هذا الكليب الذي يتهمونه فيه بأنه يتمنى زوال الإسلام، وهو اتهام فشلوا في تقديم دليل سمعي أو بصري أو مكتوب عليه. وفي هذا الكليب اتهمه طلعت السادات بأنه حرامي وكذاب لمجرد انه انتقد طلعت في كتابه (خريف الغضب). غير هذا كثير...

سيُقال عن هيكل إنه كان مسئولاً عن هزيمة 1967 وعن دكتاتورية عبد الناصر وأنه آزر السيسي وقال إنه رئيس الضرورة، وإن أولاده مليارديرات فاسدون نهبوا البلد. كلام كثير لكننا سنلقى الله جميعًا يوم الحساب ولسوف نعرف الحقائق كلها. بالتأكيد سأنال نصيبي من الهجوم كالعادة كلما دافعت عن ناصر أو هيكل، ما يعنيني هو أن هذا الرجل علمني الكثير جدًا، وأنا مدين له كثيرًا، حتى لو لم يكن أنبل رجل في العالم.

لست ممن يلاحقون المشاهير، لكني سافرت خصيصًا لكل ندواته في معرض الكتاب إلى أن تم وقفها عندما اقترب من سيرة التوريث. لي صور معه لكني لن أنشرها حتى لا يبدو المقال ذا طابع شخصي. هنا يقف في مكتبه مع أسرة تحرير جريدة الدستور الثاني، وحوله مجموعة من شباب الصحفيين والكتاب الذين يحتفظ كل منهم بهذه الصورة فخورًا بالتأكيد. هل تميز وجوه إبرهيم عيسى وأحمد العايدي ومحمد الدسوقي وأحمد الدريني وخالد كساب و.. و...؟ هذا هو هيكل الذي رحل.