قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, November 21, 2015

مساء الخير .. وحظًا سعيدًا!


عندما يتكلم الناس عن الشمولية أو الشك المزمن في كل شيء، فهم يتذكرون شعار (الحُمر تحت السرير reds under bed) حين سيطر هاجس زحف الشيوعية على المجتمع الأمريكي، ورأى الساسة كل شيء أحمر وكل شخص متآمرًا ...

وهنا يبرز اسم السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي الذي صار اسمه يرمز لاتجاه سياسي كامل .. يكفيه الفخر بأنه أدخل مصطلح المكارثية إلى العلوم السياسية.. شاهد هذا الفيلم الذي يريك المكارثية في ذروة عهدها. إنه الجنون بكل تفاصيله ... 


سيطر مكارثي على حقبة كبيرة من التاريخ الأمريكي ولقن الأمريكيين درسًا لا ينُسى، لأنهم عاشوا بسببه في جحيم من الشك أو (صيد الساحرات) لفترة طويلة تبدأ من خمسينيات القرن الماضي. كان يؤمن أن هناك طابورًا خامسًا شيوعيًا في كل ركن من الولايات المتحدة، وبعضهم عملاء فعلاً وبعضهم متعاطفون. ومن ليس شيوعيًا أو متعاطفًا هو شاذ جنسيًا .. واشتهرت جلسات المحاكمات التي كان يتحرى فيها من شخصيات عامة عن السلوك غير الأمريكي Unamerican. 

هناك سلسلة جلسات شهيرة دارت بين ممثل الجيش الأمريكي وبين مكارثي في الفترة من إبريل إلى يونيو 1954.  الجيش يتهمه بالفساد واستغلال المنصب، وهو يزعم أن هذا الاتهام جاء بسبب كشفه لتغلغل الشيوعية في الجيش.  شاهد لقطة منها هنا.

لقد جعل مكارثي وإدجار هوفر حياة الأمريكيين سوداء كابية في تلك الفترة، واضطر فنانون كثيرون للهرب من الولايات المتحدة.
في العام 2005 ، أخرج لنا جورج كلوني فيلمًا جميلاً عن مكارثي . ليس مكارثي بالضبط بل المقدم التلفزيوني الشجاع الجرئ في محطة CBS إدوارد مارو الذي اشتهر بعبارة (مساء الخير وحظًا سعيدًا) في نهاية حلقات برنامجه المهم (شاهده الآن)...هذا اسم البرنامج !!. أقترح أن تجد هذا الفيلم وتشاهده فهو درة ثمينة. شاهد التريلر الخاص به هنا.


كان مارو هو الصحفي العبقري الذي فضح مكارثي وأظهر للعالم كم هو منافق وكم أنه يدعو لجرائم الكراهية .. قام بدور مارو ممثل عظيم هو ديفيد ستراثيرن، لكن يمكنك أن ترى لقطة لمارو الحقيقي هنا في لقطة من برنامجه.  برغم أن كلوني مخرج الفيلم فقد اكتفى بدور منتج البرنامج، تاركًا الدور الأهم والأكثر جاذبية لستراثيرن. يظهر مكارثي في الفيلم في لقطات تسجيلية حقيقية، ومن الطريف أن من لم يروا مكارثي قط قالوا إن هذا الممثل فاشل جدًا، يبالغ في أدائه، ويتظاهر بالأهمية بشكل مضحك!.. لم يعرفوا أن هذا هو الشيء الحقيقي !

اهتم مارو بالقضية منذ البداية عندما سمع عن محاكمة لضابط طيران .. هذا الضابط فصل من الخدمة لأنهم اكتشفوا ان أباه شيوعي. في المحاكمة توضع كل أوراق القضية في مظروف مغلق .. ولا يلقى الطيار أي محاكمة عادلة ولا يعرف بأي شيء هو متهم.  فقط تصدر ضده إدانة ..  والكل يبتعد عنه كأنه مطلي به القار أجرب، لأن مكارثي يمكن أن يتهم أي واحد يدافع عنه بالشيوعية ..
يصمم مارو على أن يعرض فيلم المحاكمة وحوارًا مع الطيار.  وهي مجازفة لأن تمويل البرنامج له علاقة وثيقة بالحكومة.  


وكما هي العادة يتم استدعاء أحد أصدقاء مارو ليقولوا له إن اسم الأخير موجود في قوائم الرواتب التي يدفعها الاتحاد السوفييتي لعملائه منذ عام 1932. في مجتمع كهذا يكون الكل متهمين بالعمالة، وهؤلاء القوم مولعون بالظهور بمظهر العالمين ببواطن الأمور، الذين يعلمون كل قاذورات الآخرين .. هذا بالطبع قبل عصر السي ديهات.

ينجح مارو في حصار مكارثي أكثر عن طريق كشف أخطاء فاحشة ارتكبها، منها امرأة تم فصلها من العمل بسبب تشابه الأسماء . ثم يتحدى مكارثي للظهور في برنامجه كي يدفع التهمة. يقبل مكارثي التحدي . شاهد اللقطة هنا. النتيجة هي أن يلقي مكارثي دستة اتهامات بالشيوعية ضد مارو، منها أنه يتلقى راتبًا سوفيتيًا، وأن كاتبًا شيوعيًا أطراه في مقدمة كتاب.  قام مارو أثناء المواجهة ببعض الحيل التي يعرفها رجال الإعلام، منها تجسيد لقطة لمكارثي وهو يعبث بإصبعه في أنفه أو هو يتجشأ .. النتيجة هي إعطاء طابع الفظاظة والغباء . قال النقاد فيما بعد إن مارو استعمل حيلاً شبيهة بتلك التي اتهم مكارثي بعملها ! 

في النهاية يوقفون برنامج مارو لكن بعد أن يوجه ضربات قوية جدًا ضد مكارثي.  يضطر مجلس الشيوخ لفصل مكارثي، ويقضي باقي حياته وحيدًا ثم يموت في الثامنة والأربعين بفعل إدمان الكحول. على أن الفيلم يرينا لمحة من النصر النهائي للمذيع الشريف في مشهد حفل تكريمه الذي يبدأ به الفيلم وينتهي. شاهده هنا.

كما قلنا:  استعمل الفيلم لقطات حقيقية لمكارثي حسبها الناس ممثلاً يبالغ في الأداء. يمكن أن ترى تذاكيه وتظاهره بالخطورة والذكاء، فتتذكر حشدًا من الشخصيات عندنا، وتتذكر قناة الفراعين التي استضافت محاميًا كبيرًا على مدى ساعتين لسؤاله عن إشارات أبلة فاهيتا الإخوانية الماسونية. تذكر هذا المشهد العبثي هنا. هذا مشهد لا يمكن أن تصدقه ما لم تره.

مرت أمريكا بحقبة جنون وبارانويا لا شك فيها، لكن قدرة المجتمع الأمريكي على الالتئام ولعق جراحه مذهلة. علينا ان نتأمل تجربتهم هذه وكيف كانوا واثقين من أنهم على حق وقتها، وبعدها قالوا: كنا مجانين .. لقد أعمت البارانويا عيوننا.. 

نحن نمر بفترة مكارثية مكتملة، لكن ليس لدينا مذيعون من طراز إدوارد مارو يكشفون للأمة ضلالها.. لدينا نماذج مختلفة نوعًا، بعضها يطلب علفًا لأنه اكتشف أنه حمار، وبعضها يعرض لقطات من ألعاب فيديو باعتبارها لقطات من الطائرات الروسية التي تهاجم سوريا .. فهل يصلحون؟