قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, October 5, 2013

صديــــــــــق

بوابة الشباب - أكتوبر 2013

مع صديق طفولته أبهج أديب.. ومدرستهما أبلة منيرة العدوي.. في بيتها عام 2016

في ذلك اليوم المطير، قلت له:
"سوف أكتب عنك مقالاً رائعًا يوم يتوفاك الله.. سيكون مقالاً مؤثرًا يبكي كل من يقرؤه، وفي الوقت نفسه سيشعر الناس أنني حساس ومرهف"
فكان ينطلق بالسباب لي وهو يضحك.

أذكره ونحن مراهقان ننطلق بالدراجة في شوارع طنطا، وقد علق الكاسيت الصغير الذي يشبه علبة مسحوق التنظيف إلى جادون الدراجة، بينما دميس روسوس ينشد بصوته الرفيع:
"من ذكرى لذكرى أعيش"
وكانت أغنية طازجة  نسمعها لأول مرة في هذا الأسبوع. ننطلق ونرمق الفتيات الحسناوات يمشين في شارع البحر، ونحلم.

كان العمر ممتدًا والصحة مكتملة والأيام لا حصر لها. الأزهار كانت رائحتها أجمل.. الفتيات كن أروع.. الأغاني كانت أفضل.. الكتب كانت أمتع.

كما ذكرت في مقال سابق عن قطة شرودنجر أن حياتي كلها قد تحددت عندما اخترت ذلك الفصل في مدرسة الإصلاح الابتدائية. هكذا تحدد للأبد أصدقائي وتحددت اهتماماتي. كان أول من جلست جواره هو ذلك الطفل ذو العوينات الذي يحمل ذلك الاسم غير المعتاد (أبهج أديب باسيلي).

لم أعرف أنه مسيحي.. وأقر وأعترف أنني لم أعرف معنى ذلك إلا في سن متأخرة جدًا.. أشعر دائمًا بالمغص والغثيان كلما راح كل كاتب يقول الديباجة الشهيرة: "كان جيراني المسيحيون يهتمون بأمرنا، ونتبادل الكعك في الأعياد.. ولم نشعر قط باختلاف ديني... إلخ.. إلخ". وهو كلام معتاد يشبه جلوس الشيخ جوار القس في الاحتفالات.. أشعر أنه مجرد كلام إنشائي ينهار لدى أي خلاف حقيقي. ما أؤمن به هو أن العلاقات الطبيعية لا تقال فيها هذه الكلمات.. جلوس الشيخ جوار القس في المناسبات العامة يعني بوضوح أن الأمور ليست على ما يرام. على قدر علمي لم أحاول قط أن ألتقط لنفسي صورة مع أختي لأثبت أن علاقتنا ودية. العلاقات الطبيعية الودية تعاش فحسب ولا يتكلم عنها أحد. كانت صداقتي مع أبهج من هذا الطراز... وعلى قدر ما أذكر كانت أمه هي أمي تقريبًا.

لا أعرف متى صرنا صديقين واكتشفت أنه يهوى الرسم مثلي، ويقرأ مثلي. كنا نقرأ كل شيء يقع تحت أيدينا، ولهذا كان وعينا يتجاوز بمراحل وعي طفل في الصف الأول الابتدائي. أذكر أن معلمة مبهرجة ملطخة بالأصباغ جاءت للمدرسة، وكنا في الصف الثاني الابتدائي. قال لي بالحرف وباللغة الفصحى: "إنها تستعمل ذات نوع طلاء الأظافر الذي تفضله بائعات الهوى!".  تخيل لو سمعت المعلمة هذه الكلمات من طفل في السابعة.

لم أتصور قط أن أصدقاء المدرسة يزورون بعضهم.. عندما سألني عن عنوان بيتي قلته له دون اهتمام. ثم جاء اليوم الذي نمت فيه أمام التلفزيون أثناء السهرة، بينما أفراد أسرتي من حولي، ثم وجدت من يوقظني.. فتحت عيني لأجد أبهج واقفًا في الظلام لا يكشفه سوى وهج الشاشة.. بدا لي الأمر كحلم.. لم أفهم ما يحدث،  بينما أمي تأمرني بأن أشكره.. على ماذا؟.. لا أفهم.. تركته وواصلت النوم على الأريكة بينما هو يتحدث عن خاله الذي ينتظره في السيارة. خال من؟.. سيارة من؟.. خ خ خ..! وفيما بعد عرفت أنه أحضر لي بطاقة جميلة كهدية لي في عيد الفطر. كان هذا هو المعنى الأول للصديق في حياتي، ومنذ ذلك الحين عرفت بيته في شارع النحاس، وكانت معرفتي الأولى بأعياد المسيحيين. هناك عيد تخرج فيه أمه شجرة عيد الميلاد وتضع حولها تماثيل دقيقة للمزود بأبقاره وخرافه، والمسيح الرضيع والعذراء وآلاف الأضواء المتناثرة.. ثم تبعثر القطن على الشجرة ليبدو كالثلج . هذا هو العيد الذي أهديه فيها بطاقة يبدو عليها التجار المجوس راكعين حول المهد، وهناك عيد آخر قريب جدًا من شم النسيم، قبله عيد صغير يجلب لي فيه الخوص الذي قام بتشكيله، وكنت أحتفظ بطاووس صغير صنعه لي من الخوص. ثم يأتي عيده فأعرف أنني سأهديه بطاقة يظهر عليها المسيح صاعدًا للسماء بينما يقف الحواريون منبهرين. الحقيقة أنني تعلمت مع أبهج أن المسيحيين ليسوا (آخرين). إنهم  نحن. فقط هو يذهب للكنيسة يوم الأحد وأذهب أنا للمسجد يوم الجمعة. كان هذا حقيقيًا بدون عبارات إنشائية (حمضانة).

البيت الصغير المنظم الذي يطل على حديقة غناء، وهذه الحديقة كانت الغابة التي لا تنتهي مغامراتها. كان والده معلمًا يهوى النجارة.. لذا كانت هذه الحديقة تحوي كل ما يلهب خيال طفل في الابتدائي. كل أدوات النجارة وجذع الشجرة المقطوع المتفحم الذي يشعله أبوه ليلاً ليعد عليه الشاي، والأرجوحة المعلقة بين شجرتين.

كان يتردد على بيتي فأثار ذهوله الكم الهائل من الكتب والمجلات لدي، لهذا كان يزورني أحيانًا ليقرأ. لا يفعل شيئًا سوى القراءة ويطالبني بأن أخرس عدة ساعات، وعلى كل حال أعتقد أن عقلينا تكونا من مجلات سمير وميكي وسوبرمان والوطواط.. ثم ظهرت المجلة الفاتنة (تان تان) التي كانت دار الأهرام تترجمها، والتي حملت لنا الثقافة الفرانكفونية وجعلتنا نرى كل شيء في العالم تقريبًا. هنا افترق طريقانا نوعًا لأنني اهتممت أكثر بالقراءات الأدبية، أما هو فطبعه العملي نافد الصبر جعله غير قادر على إدراك روعة هذه الخيالات المنسوجة من دخان. كان طفلاً واسع العينين يريد أن يعرف حقائق فقط.. يريد أن يرى العالم ولا يضيع وقته مع تهاويم شخص آخر. لهذا ظل يعتبر الشعر سخفًا حتى اليوم.

لو تركت لساني ينطلق في ذكريات الطفولة لاحتجت إلى عدة حلقات.. النبات الغريب الذي ينمو في حديقة المدرسة والذي قطعنا كل أوراقه لنغليها، ونحن متأكدون أننا سنصل لمركب كيماوي مذهل.. ربما هو المركب الذي يخفيك عن العيون أو يجعلك تطير.. اليوم الذي كنا نركض فيه في الفناء وأنا ألوح بمسدس صغير من غصن شجرة.. صوبته نحوه وهو يركض وأطلقت صوت الرصاص بفمي (بوم!). هنا وجدته يطير في الهواء ويتدحرج، وتناثر الغبار من حوله،  والدم ينز من ثقب في جبهته! يمكنك تصور ملامح وجهي وأنا أرمق المسدس الذي في يدي في ذهول وغباء. بعد هذا تبين أن ولدًا في صف أكبر منا قذفه بقطعة حجر أصابت جبينه في هذا الوقت بالذات.

نعم.. هناك الكثير من الذكريات الساحرة.. ذكريات لها موسيقا الشعر ولون أكمام الزهر.

قلت له ونحن نمشي في شارع البحر ليلاً:
"ليس مطلوبًا منك أي جهد... فقط عليك أن تموت.. سوف أكتب عنك مقالاً ممتازًا وربما كتابًا كذلك"
قال لي إنه سيحاول لكنه لا يعدني بذلك.

كنت أشعر أن في تصرفه الكثير من الأنانية.. يمكنه أن يعطيني موضوعًا لكتاب رائع أو مقال لا ينساه الناس.. لكنه يصر في عناد سخيف على الحياة. لقد تغير الناس كثيرًا.

ما حدث هو أنني أصبت بأول نوبة قلبية في حياتي عام 2011، وتوقف قلبي مرتين في يوم واحد، وأنا أرتب فقرات المقال الذي سأكتبه عنه لو مات!.. ما علينا.

في فترة من الفترات كنت أجلس في بيتي فأشعر بوحدة خانقة وسأم رهيب.. أغلق كتب الدراسة الخاصة بالصف الثالث الإعدادي بكل ما فيها من محمد علي وقوانين ضرب الأقواس وقاعدة No sooner than وأذهب لبيته. هنا ـ في منتصف الطريق -  أفاجأ بأنه يركب دراجته قاصدًا بيتي لأنه (سئم كتب الدراسة الخاصة بالصف الثالث الإعدادي بكل ما فيها من محمد علي وقوانين ضرب الأقواس وقاعدة No sooner than.

كنا نذهب إلى السينما يوم الخميس كل أسبوع مع المزيد من أفراد الشلة، وكنا نختار أسوأ الأفلام الصينية التي تم تصويرها في هونج كونج بألوان بني وأصفر، والسبب هو أنها تجعلنا نضحك.. نضحك حتى نعجز عن التنفس. وكان يقول لي في حيرة: "كيف يتحكم زعيم العصابة في هؤلاء الأوغاد؟.. هل يجيد لعب الكونج فو أفضل منهم ؟"
أقول له: "أنت لم تر رئيس هونج كونج.. لابد أنه مرعب !!"

نفس الأغاني كنا نسمعها.. سمعنا كل شيء لدميس روسوس والبيتلز وآبا وبي جيز وإريك كلابتون وبوني ام  ورود ستيوارت، قبل أن تظهر تلك الفرقة المصرية رشيقة الألحان (المصريون).. ثم جاء حميد الشاعري.. ثم بدأنا نكتشف أن أم كلثوم وعبد الوهاب رائعان.. وهكذا.

عندما جاءت الثانوية العامة، لم يستطع قط أن يرغم نفسه على الاستذكار بينما استطعت أنا أن أروض جواد عقلي الجامح وأستذكر، والنتيجة هي أنني دخلت كلية الطب ودخل هو كلية العلوم. لكننا ظللنا كيانًا واحدًا يدرس في كليتين.. وأعتقد أنه يحمل جزءًا طبيًا لا بأس به في عقله أخذه مني.

الفتيات وقصص الحب. الإحباطات. الانتصارات. مشاكل الأسرة.. بدايتي مع التدخين.. قرر هو أن يجرب سيجارة اقترضها مني ليعرف سر ما يشعر به المدخنون. حذرته ألف مرة لكنه أصر.. بعد أسبوع واحد صارحني بمشاكله الشديدة مع الإقلاع عن التدخين بعد ما صار يدخن علبة كاملة يوميًا.

ذكريات شركة الكمبيوتر التي افتتحناها معًا مع أربعة أصدقاء آخرين، وذكريات النجاح والفشل.

تشاجرنا كثيرًا لكنها مشاجرات أطفال على غرار: " أنا أرسم أفضل منك".. "أنت لا تستطيع لعب كرة الطاولة"... المشاجرات من هذا النمط تقوي الصداقة ولا توهنها. بينما مشاجرات المال وخلافات الشركاء و(كيف جرؤت زوجتك على أن تكلم زوجتي بهذه الوقاحة؟) تدمر أي صداقة مهما كانت متينة. لكن بعد التخرج كانت هناك مشاجرة قوية وعنيفة مع أبهج أدت لقطع العلاقة عدة أعوام. سوء الفهم المتبادل مع التوتر وشعورك بأنك لا تملك أي سلاح أمام الحياة القادمة. عندما صدر أول كتيباتي ذهبت لبيته لأهديه له، وتوقعت أن يبدي الكثير من الفرحة.. لكنه قال لي بعدها في قرف: "إيه العك اللي بتكتبه ده؟". لم يبد لي هذا ردًا عادلاً خاصة أنني كنت أعرف أن ماكتبته لم يكن عكًا. كتبت الكثير من العك بعد هذا، لكن هذا الكتيب لم يكن عكًا. شعرت بالكثير من التعنت والجفاء، وجاءت اللحظة التي شعرت فيها بأن طريقينا يفترقان.

مرت أعوام عديدة وتزوجت وتزوج هو.. لكن ذلك الشعور القاتل كان يمضني من وقت لآخر: ماذا سيقول لو رأى كذا؟.. ماذا سيكون رأيه لو سمع هذه الأغنية أو رأى هذه الصورة؟.. ترى فتاة يعتبرها الناس قبيحة، لكنك تدرك أنك وأبهج الوحيدان اللذان سيريانها فاتنة. عندما اقتنى أولادي كلب هسكي لم أعد أتحمل أكثر.. الشخص الوحيد في مصر الذي يحمل ذكرياتي عن كلاب الهسكي والاسكيمو والزحافات التي تشق طريقها عبر الثلوج، والمشهد الأخير من رواية فرانكنشتاين، والذي  يذكر عشرات القصص من الطفولة تدور حول كلاب الهسكي.. هذا الشخص هو أبهج.

رفعت سماعة الهاتف وطلبته أخبره – وهو مذهول – أن أولادي لديهم كلب هسكي. لا شك أنه اعتقد أنني جننت.

عادت الصداقة لما كانت عليه تقريبًا.. لم يفقد اهتمامه بالأشغال اليدوية التي تعلمها من أبيه، وقد صمم لابنتي مريم ببعض قطع الخشب بيتًا ساحرًا للدمى. له نوافذ زجاجية تفتح وتغلق وكشافات ومكان لانتظار السيارة و.. و... ما زال الطفل في داخله حيًا.

لم يتغير على الإطلاق، لكن ذلك البيت الجميل القديم الذي نشأ فيه لم يعد هناك.. لقد بيع وبنوا مكانه مطعمًا كبيرًا.. هذا الشعور القاسي الغريب. تناولت العشاء ذات مرة في ذلك المطعم ثم اتصلت به أخبره أنني تناولت العشاء في نفس مكان غرفة نومه القديمة. الحقيقة أنه لم يعد يجرؤ على المرور في ذلك الشارع أبدًا، ولو دخلنا مكان بيته القديم لوجدنا من يقول لنا: عاوز حاجة يا أستاذ؟

كنت أعرف أنني سأكتب مقالاً رائعًا عن هذه الصداقة التي دامت 47 سنة.. فقط طالبته في أدب أن يموت.  لا معنى لهذا المقال إذا ظل حيًا.

للمرة الثانية أصبت بنوبة قلبية عاتية كادت تودي بي منذ شهرين. أدركت الحقيقة المرعبة وهي أنني لن أعيش غالبًا إلى أن أكتب المقال الذي أحلم به. للأسف لا يملك أبهج موهبة الكتابة أو الصبر اللازم لها، لذا لا أتوقع أن يكتب هو مقالاً عني؛ ولهذا قررت أن أكتب مقالي عن أبهج الآن على سبيل الاحتياط.