قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, November 12, 2012

لن يتغيروا أبدًا



فى أعوام الكلية – أتذكر – قمت مع رفاقى بعمل مجلة حائط. على سبيل الدعابة ألصقت زهرة من البلاستيك على فرخ المجلة، وكتبت إننى أراهن أن هذه الزهرة سوف تبقى حيث هى أسبوعين دون أن تُمس، لأننا سنبرهن على أننا شعب متحضر راق. علقنا المجلة.. ذهبت لأشترى سجائر.. عدت بعد ربع ساعة فوجدت أن الزهرة غير موجودة!.. لقد دام التحضر ربع ساعة فقط

السؤال هنا هو: ماذا يمكن عمله بزهرة بلاستيكية رخيصة ؟.. لا شيء فى الواقع.. لكن هناك قاعدة رئيسة تقول إن أى شيء يمكن أن يُسرق سوف يُسرق. السرقة على سبيل (الاستخسار) لا توجد إلا فى مصر على قدر علمى. ثم أن هناك لذة التحدى والتخريب ورفض أن يختبرك أحد.. عملية نفسية معقدة جدًا

كانت هذه بدايات التغير المرعب فى الشخصية المصرية، ومع الوقت عرفت أمثلة عديدة فى السنوات التالية وعلى مدى 25 عامًا. قد يبدو المثال شخصيًا جدًا لكنى فعلاً لا أفهم مبرر سرقة أى كتاب لى بعد ربع ساعة من ظهوره فى السوق، وفى الغالب يتم هذا مع كتب رخيصة جدًا. لكنها طبيعة الاستخسار.. والأهم أن كل منتدى على النت يسرق كتاباتى يكتب صاحبه: (نسألكم الدعاء !), فيردون عليه: (جعل الله هذا فى ميزان حسناتك !)و (بارك الله فيك يا أخي). متدينون جدًا هؤلاء اللصوص. لاحظ التناقض الغريب.. فلو كنت أنا شيطانًا رجيما يريدون تدميره بسرقة أعماله، فلماذا يقرأونها ؟.. ولو كنت أنا مجرد كاتب جيد فلماذا السرقة منه؟

كل هذا مقبول ويمكن أن نعتبره نوعًا من الظرف المصرى المبالغ فيه، لكن الأمر يتنامى بشكل مروع وبين لحظة وأخرى.. وفى كل الأحوال هناك ذلك التناقض الرهيب بين الأفعال والأقوال، وبين جوهر الدين وبين التدين الظاهرى

جلست منذ عام فى مينى باص، وكان السائق يريد تشغيل أغان تروق له. هنا صاح أحد الجالسين فى المقعد الخلفى بصوت مزق آذاننا: «شغل قرآن يا أسطى !»… تجاهل السائق الطلب. هنا انفجر الراكب بسيل من الشتائم الفاحشة ضد السائق، وكلها تتعلق بسلوك الأم الجنسى.. وتوعده بأنه (حيشيل وشه) لو لم يفعل. تأملت الراكب ورأيت أثر المطواة الواضح على خده وتساءلت: ماذا سيفعله بسماع القرآن مع كل هذا الفحش؟؟. لكن السائق على كل حال شعر بالرعب وأدار شريط قرآن فعلاً، فانشغل الراكب فى الكلام مع جاره وقد اطمأن.. وأؤكد أنه لم يصغ لآية واحدة

هذا الموقف فى رأيى يلخص مصر اليوم.. كلام كثير جدًا عن الدين لكن الأخلاق تنحدر بلا توقف

منذ أيام رأيت مشهد التحرش بسونيا دريدى مراسلة قناة فرانس 24 فى ميدان التحرير… حدث هذا يوم جمعة (مصر مش عزبة)ـ

فتاة مصرية (أكرر أنها مصرية) أنيقة محترمة تقف وسط الجماهير وتتكلم مخاطبة الكاميرا، يحيط بها الجمهور المعتاد الذى (بلا شغلة ولا مشغلة) سوى النظر للكاميرا بعدوانية وبلاهة. أكرر هنا أنهم مواطنون عاديون ولا يبدون كبلطجية. وفجأة لاحظتْ أن من حولها يلتصقون بها أكثر من اللازم.. بدأت تتوتر وتقلق. ثم فوجئت بأن معظمهم يمدون أيديهم عليها، وأحدهم مد يده إلى شعرها يتحسسه… نفس السيناريو الدائم. وعندما حاولت الابتعاد لحقوا بها فى جدية وصرامة كأنهم يؤدون واجبًا مقدسًا. أنقذها زميلها بأعجوبة، وقد اكتشفت بعدها أن أزرار البلوزة مفتوحة لكنها تؤكد أن حزامها المعدنى أنقذها

فى اليوم التالى تجد الخبر والصور فى كل المواقع الغربية.. مع تحذيرات متوالية للغربيين أن يأخذوا الحذر.. المصريون شعب غير متحضر.. المصريون جائعون جنسيًا فابتعدوا عنهم.. إلخ

من قبل هوجمت مراسلة قناة سى تى فى ماريان عبده فى ميدان التحرير.. القصة معروفة للجميع. مواقع الإنترنت الغربية مليئة بقصة المراسلة لارا لوجان التى تعمل بقناة
CBS
والتى أصيبت بانهيار عصبى، بعد ما أحاط بها 300 رجل فى ميدان التحرير يوم 11 فبراير 2011 لحظة الاحتفال برحيل مبارك، وبعد هذا تعرضت الصحفية المصرية منى الطحاوى لتحرش عنيف فى شهر نوفمبر. وهناك صحفية فرنسية اشتكت من التحرش فى الشهر ذاته. ثم جاءت قصة ناتاشا سميث الصحفية البريطانية (21 سنة) التى تدرس الصحافة الدولية فى كلية فالموث بكورنوول. التى وجدت مئات الأيدى تجرها وتعتصر جسدها فى ميدان التحرير، ليلة الاحتفال بفوز مرسى بالرئاسة. ثم شعرت بأيد عابثة تتوغل فى كل جزء من جسدها مع تمزيق شعرها..وكان هناك رجال كثيرون يحاولون حمايتها أو عمل سور بأجسادهم يحميها، وجربوا أن يخبئوها فى خيمة.. لكن العابثين كانوا أكثر. عرفت من النساء أن هذا كله نتيجة إشاعة تزعم أنها جاسوسة. لكن هذا فى رأيها كلام فارغ.. مجرد حجة للعبث بجسد فتاة غربية شقراء. بينما غطتها بعض النساء ببرقع ورحن يقلن لها: هذه ليست مصر.. ليس هذا هو الإسلام.. أرجوك لا تعتقدى أن هذا هو الإسلام !ـ

تأمل الدعاية التى لا تقدر بثمن، عندما يظهر المقال فى جريدة ميل بتاريخ 12 يوليو 2012، والعناوين تقول: «مجموعة حيوانات تهاجم ناتاشا سميث، وقد جردتها من الثياب ولم تهرب إلا بعد ما أعاروها ثياب رجل وبرقعًا». والله لو دفعت إسرائيل مليارًا لما نالت هذه الدعاية ضد مصر والمسلمين. أتساءل دومًا لماذا لا يغار المصريون على مصر وصورتها فى الخارج ؟.. ولماذا يسمحون للمجلات الغربية والمنتديات أن تسلقهم بلسانها ؟.. لماذا لا يحافظون على صورة الثورة الحضارية الجميلة التى لم يتركوا منها شيئًا…؟ أعتقد أن أى صحفية تقصد ميدان التحرير بعد اليوم مجنونة

الشيء الذى لاحظته فى معظم حوادث التحرش، هو أن رجل الشارع يتصور أن التحرش بالمرأة واجب دينى يقربه من الله.. يجب أن تعاقب لأن ثيابها خليعة.. فإن كانت ثيابها محترمة فيجب أن تعاقب لأنها خرجت من البيت.. وهذا ما يبررون به تحرشهم بالمحجبات والمنقبات.. العقاب ستقوم به أنت، وهو يتمثل فى امتهانها وبعثرة كرامتها وجمش ما تصل له يدك من جسدها. هناك سبب لا يقوله أحد هو أنهم يتحرشون بها لأنها امرأة..هذا سبب كاف.. إن كراهية المرأة (الميزوجينية) واحتقارها شيء ثابت لدى رجل الشارع اليوم

هكذا نجد ظاهرة أخرى غريبة لا نقابلها إلا فى مصر: التحرش الذى يعتقد صاحبه أنه يؤدى واجبًا دينيًا. كل سائحة تأتى لمصر تعرف أنها إذا مرت أمام رجال فسوف يزنونها بأعينهم ويسبونها أقذع السباب بالعربية التى لا تفهمها، وفى الوقت نفسه يشعرون أنهم قاموا بما عليهم دينيًا

لم أعد أفهم الناس فعلاً.. كل هذه التناقضات الغريبة والادعاء وخداع النفس… تعبت.. ثقتى عالية بالشباب المثقف المتزن الذى قام بالثورة، لكن هؤلاء الذين يمزقون ثياب النساء فى التحرير ليسوا من هؤلاء، وهم الأكثر عددًا والأعلى صوتًا والأقوى قبضة، وهم لا يقرءون، ويؤمنون أنهم على حق تمامًا.. وبالتالى لن يتغيروا أبدًا. تعبت فعلاً من محاولة الفهم وأنتظر معجزة ما