قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, December 12, 2011

عزيزى محمد فتحى



عزيزى محمد فتحى يطل علىّ دائما على شمال مقالى، فى المربع اليومى الذى يكتبه. لا أستطيع أن أحرك ذراعى أكثر من اللازم وإلا اصطدمت به. ولا شك فى أنه شديد الذكاء بارع فى استعمال الكلمة الموجزة البليغة كالسوط، وهو فن قديم تعلمناه من أستاذنا أحمد رجب. لا تنس أن محمد فتحى صحفى جميل «جورنالجى» بالمعنى الحرفى للكلمة، وسيكون أستاذ إعلام قريبا إن شاء الله. لكننى كلما قرأت هذا المربع شعرت بأننى مسن جدا تقليدى جدا بطىء جدا. إما أننى شخت فعلا ولم أعد حار الدماء، وإما أن محمد فتحى مندفع ملتهب أكثر من فهمى، وهذا منطقى لأن محمد فى عمر أولادى فعلا. كلما فتحت الجريدة نظرت فى توجس إلى مقاله القصير لأرى أى مصيبة وقعنا فيها أخيرا.. أى خطأ ارتكبناه وغير قابل للتصحيح أبدا. أنظر إلى اليسار لأرى عينى محمد المشاكستين الذكيتين تنظران إلىّ من وراء عويناته، ولسان حاله يقول: «ليس الأمر بهذه البساطة». والحقيقة أننى بدأت أختلف كثيرا مع معظم كتاب «التحرير» الأعزاء. مثلا أنا لست متحمسا مؤيدا لكل المظاهرات على طول الخط.. أرى أنه لا بد من التقاط الأنفاس أحيانا وترك الفرصة للآخرين.. يجب أن تظل المظاهرات وسيلة ضغط فعالة فى لحظات بعينها، لكنها ليست طريقة حياة. لسان جريدة «التحرير» على الأرجح يقول:ـ
البلد راحت فى ستين داهية
كل خيارات المجلس العسكرى خطأ
الأسوأ قادم
قدوم الإخوان يعنى أن الشعب ليس على ما يرام
الجنزورى يصحو من نومه كل يوم ليدمر مصر ثم ينام سعيدا
الحرب الأهلية قادمة والأحمق من لا يعتقد هذا
كل من هو أكبر من أربعين عاما فلول غالبا، ووغد يتظاهر بأنه ليس كذلك

بالطبع لا أختلف على نقاط أخرى مثل تباطؤ المجلس العسكرى والتلكؤ الشديد فى المحاكمات وانعدام الأمن المتعمد، وتوحش الداخلية وغبائها، وأنامل مبارك التى تتحرك من وراء ستار.. إلخ.. كل هذا أوافق عليه بشدة وإلا لكنت مع مبارك فى سجن طرة الآن، لكن ليس كل شىء سيئا وليس كل الناس عملاء.. ولنتذكر أننا نخطئ أحيانا فى اختياراتنا.. ألم يأت عصام شرف من الميدان وباختيار الثوار؟ وصبروا عليه كل هذه الأشهر؟ إذن لماذا لا نمنح الجنزورى فرصة فى حكومة مؤقتة ليس لها مستقبل ولا تأثير أصلا؟ وماذا يفعله البريطانيون لو منع المحتجون وصول الوزراء إلى 10 داوننج ستريت لأنهم غير معجبين برئيس الوزراء؟

التغيرات التى تحدث هذه الأيام صاعقة.. يكفى أن يتأخر المقال يومين حتى تجده قديما بلا طعم. وأذكر أننى كتبت مقالا يوم الخميس -موعدى المعتاد- وأرسلته.. ثم اشتعلت المظاهرات ومواجهات شارع محمد محمود يوم السبت. النتيجة أن مقالى نشر يوم الإثنين ليتكلم عن البنت التى ظهرت عارية على الفيسبوك، بينما البلد تحترق حرفيا!ـ

أمس كنت أجول شوارع مدينتى، فوجدت مهرجانات فى كل مكان.. شباب زى الورد يقفون فى إشارات المرور يلقون فى حجرك بأوراق تتحدث عن برنامج حزب الحرية والعدالة، وزينات وملصقات فى كل مكان.. بل إن هناك أغنيات عبر مكبر الصوت كذلك! الأظرف أنهم أقاموا هذا المهرجان أمام مقر أمن الدولة سابقا! لقد سقطت الأصنام وتهاوى إيوان كسرى. أختلف كثيرا مع فكر جماعة الإخوان، لكن من ينكر أن هذا المشهد جميل؟ انتخابات حقيقية كالتى تراها فى أمريكا وإنجلترا وفرنسا.. مشهد جميل وكلف المصريين الكثير كى يتحقق. انتخابات لم يشبها شىء حتى الآن، وأرى أنها كانت نظيفة، لكنها غير عادلة كما قلت.. سلاح الخطاب الدينى لا يعطى تكافؤ فرص فى مصر بالذات.. يمكنك أن تصعد بأى شخص للقمة لو قلت إنه متدين أو عالم دين، أو قلت إنه بتاع ربنا حتى لو لم ينضم إلى الثورة منذ البداية، وظهر عندما عرف أنها أكبر مما توقعنا. ويمكنك أن تخسف الأرض بأى واحد لو قلت إنه ملحد أو علمانى. رغم هذا لا يمكن أن ترفض إرادة الشعب فى النهاية.. صندوق الاقتراع هو الفيصل.. أنت كتبت مئات المقالات عن ذكاء الشعب والشعب المعلم.. إلخ.. إذن فلتقبل الخسارة بشجاعة

شاب ملتح باسم مد يده من نافذة سيارتى بمطوية، فقلت له ممازحا:ـ
ـ«لاحظ أننى أستمع للأغانى من كاسيت السيارة»ـ
ضحك بما معناه أن هذا لا يهم، وألقى بالمطوية. صوتى مهم.. هو يريد صوتى.. الكتلة تريد صوتى… حزب الوسط يريد صوتى.. لن يلقوا به فى ترعة القاصد

من الصعب فعلا أن تتذكر ما كان يحدث فى هذا الوقت منذ عام واحد. عندما كتبت، والاشمئزاز يغمرنى، مقالا اسمه «غثيان»، أصف فيه قرفى من هذه التمثيلية السخيفة. فى ذلك الوقت تقريبا قابلت صديقا سنيّا فوجدته قد أزال لحيته لأن الأمن -كما قال- يتربصون به هو بالذات. فى أى كمين ليلى أو لجنة مرور أو أى شىء.. لا بد من أن ينزلوه وحده من السيارة ليسألوه عن كل شىء، حتى اسم زوج خالته، ويطلقون سراحه بعد ساعة ليتصرف فى العودة.. كان كل شىء مختلفا منذ عام. اليوم نحن فى ترف التأثير فى الشارع والصراع بين الكتلة والسلفيين ومشكلة كتابة الدستور. إلخ. واليوم تجد السلفيين يحتشدون أمام مقر أمن الدولة السابق

مصر تغيرت كثيرا.. الانتخابات أخبرتنا بذلك، ولو تأخرت أكثر لالتهبت أعصابنا أكثر، ولشعرنا أن الثورة لم تحقق شيئا.. ذلك الشعور الذى جعلنا نلتهم أناملنا وأنفسنا تسعة أشهر

عزيزى محمد فتحى.. بالطبع لا أعتقد أن عصا سحرية ستحل مشكلاتنا، وأشعر بقلق من سيطرة التيارات الدينية على البرلمان، وأرى أن الحل التركى هو الحل الأمثل لنا قبل أن يتكرر السيناريو الجزائرى، وأنا قلق جدا من عدم رحيل العسكر لو حدث. رغم هذا لا أنكر أننا فى وضع أفضل بكثير وأننى متفائل

أراك من مربع مقالتك تنظر إلىّ نظرتك الجانبية الثاقبة.. أنت مهذب جدا وابن ناس، لذا تفضل أن لا تقول ما تريد قوله. سمها شيخوخة أو تعقلا زائدا، لكنى أكرر: التشاؤم ليس سياسة صائبة دائما، والتحرير ليس على حق دائما.. فلنعط الجنزورى والانتخابات فرصة ولنر