قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, November 29, 2011

لمسة ميدوسا



لا أعرف مدى صدق ذلك الفيلم المنتشر على شبكة النت وعرضته الفضائيات، الذى يظهر رجال الشرطة يطلقون الرصاص المطاطى على المتظاهرين، ويتقدم ملازم نحيل إلى الأمام ويحسن التصويب، ثم يطلق بندقيته.. هنا يهتف الجنود: جات فى عين أمه.. برافو يا باشا. ويتراجع الضابط ليعيد حشو سلاحه.. يبدو وجهه ظاهرا جدا أقرب للبراءة، وقد بدا عليه كأنه طفل قام بعمل خلاق. من الممكن طبعا أن يكون شريط الصوت قد تم وضعه فى ما بعد، لكن لماذا اهتم النائب العام بالواقعة إن لم يكن الفيلم صحيحا؟ ما الذى فكر فيه هذا الشاب وهو يفقأ عين شاب مثله، وبضغطة زناد يحوله إلى صاحب عاهة؟ على كل حال تكفّل «الفيسبوك» بتوزيع صورة الضابط ورقم هاتفه وعنوانه على كل شاب فى مصر، وأعتقد أنه فى مأزق حقيقى اليوم.. يحتاج إلى برنامج حماية الشهود كالذى يتم فى أمريكا لتغيير عنوانه واسمه ومهنته وشكله إذا أراد أن يظل سالما يوما آخر. هذه اللقطة وحدها تؤكد أن الداخلية لم تتغير، وأنها ما زالت تحمل حقدا أسود نحو المتظاهرين.. وعلى كل حال يؤكد الثوار أن ميزانية مصر بخير والحمد لله.. عرفوا هذا إذ حسبوا ثمن كل ما ألقى عليهم من قنابل غاز، ما لم تكن هذه منحة أمريكية سخية

عام 1978 عرض فيلم اسمه «لمسة ميدوسا» من بطولة رتشارد بيرتون. وفى هذا الفيلم كان بوسع البطل أن يحدث الكوارث وينكل بالناس بمجرد نظرات عينيه، فلما دخل فى غيبوبة راح عقله الشرير يعمل مستقلا.. يقتل الناس ويسقط الطائرات ويدمر.. المفتش لينوفنتورا كان هو الوحيد الذى أدرك هذا، وقام بفصل جهاز التنفس الصناعى عنه بعد فوات الأوان، وبعدما دمر كثيرا جدا

هناك أخبار كثيرة فى الصحف عن مبارك وما يدور حوله، ومعظم هذه الأخبار تدخل بجدارة فى نطاق خصوبة الخيال. مثلا هناك خبر يؤكد أن فتحى سرور اتصل به وقال له «اطمئن يا ريس.. الانتخابات بايظة بايظة والبلد حتولع». على الأرجح هذا هو تفكيرهم، لكنهم لن يقولوه ولو قالوه فلن يكون هذا بمسمع من مصدر صحفى. الأمر إذن لا يتجاوز فن «القراءة الباردة» الذى يجيده المشعوذون، أى أن تستنتج ما تسير عليه الأمور وتدعى أنك أوتيت هذا عن علم. مثلما ادعى أشعب النبوة فقال للناس ما يدور فى أذهانهم «تفكرون فى أننى نصاب!». لكن الخبر الأخير الذى جاء عن مبارك يذكر أنه قال للأطباء «أنا قلت لهم. يا أنا يا الفوضى.. ماسمعوش كلامى». من المؤكد أنه قال هذا فعلا وما زال يقوله

هناك يرقد على فراشه أو يجلس فى الشرفة أمام التليفزيون ويتابع ما يحدث، عابثا فى أنفه أو غير عابث، زاعما أن غيابه هو سبب الفوضى، بينما الحقيقة أن وجوده هو السبب. ما زال يحكم ويسيطر على كل شىء كما هو واضح.. وما زلت أتذكر منظر رتشارد بيرتون وعينيه الشريرتين، وهو يحدث الكوارث والمصائب من فراشه الذى يرقد عليه

منذ تسعة أشهر كان رجال الشرطة يطلقون الرصاص المطاطى على عيون المتظاهرين، وكانوا يطلقون الرصاص الحى على الرؤوس. اليوم نرى أن هذا يحدث بالطريقة ذاتها.. لم يتغير شىء.. فقط ظهرت أنواع أحدث من الغاز. منذ تسعة أشهر كان مجموعة من القناصة يقتلون شابا وقف كاشفا عن صدره ليثبت أنه أعزل، واليوم يصيحون «جات فى عين أمه يا باشا»ـ

منذ تسعة أشهر كان ميدان التحرير يعج بالمتظاهرين، واليوم يتكرر المشهد ذاته.. منذ تسعة أشهر كانت هناك مظاهرات مضادة خرجت تؤيد مبارك وتلتحم بالثوار. اليوم هناك مظاهرات مضادة فى العباسية، لكن هذه المظاهرات تؤيد المجلس العسكرى

منذ تسعة أشهر جاء للحكم أحمد شفيق، ليؤكد أن كل شىء على ما يرام، وظل جاثما على أنفاسنا حتى وجد المجلس أنه مضطر لإقصائه تحت ضغط الشارع. اليوم ظل عصام شرف يؤكد أنه راغب فى الاستقالة.. وعلى حين كان أحمد شفيق يعرف ما يفعله جيدا.. بدا عصام شرف مرتبكا واهنا

منذ تسعة أشهر ظهر أحمد شفيق فى نصف الشاشة ليؤكد أنهم لن يضروا أحدا من المتظاهرين.. وفى نصف الشاشة الآخر ظهرت وقائع موقعة الجمل وتحطيم رؤوس الناس بالسيوف. واليوم يؤكد عصام شرف أن الحكومة آسفة لسقوط ضحايا وأن القمع ليس من سياستها.. فى الوقت الذى غطت فيه الجثث الميدان

منذ تسعة أشهر سمعنا خطاب مبارك العاطفى الذى أوشك على أن يقسم الثورة، الذى أكد فيه أنه راحل بعد ستة أشهر.. اليوم سمعنا خطاب المشير الأقل عاطفية الذى يؤكد أنهم راحلون فى مارس 2012.. وبعد كلا الخطابين تعالت أصوات تقول: ماذا يريد هؤلاء الثائرون؟ أليس هذا كافيا؟

منذ تسعة أشهر قررنا أن نسترد ما نهبه مبارك ورجاله.. واليوم ما زلنا نتكلم عن ذلك، وإن أدركنا أن الأمر أعقد مما تصورنا

كل شىء يتكرر، مما يؤكد أننا دخلنا فى دوامة مفرغة أو حلقة شيطانية. لكنك وراء هذا كله تشعر بأنامل مبارك ولمسته.. إنه هناك فى محبسه، لكن كل شىء يتحرك لمصلحته وعدم المساس به، وتدرك جيدا أن هناك طبقة كاملة تحارب كى تحتفظ بمكاسبها، حتى تجهض الثورة كلها.. دعك من أنه يمثل مصالح إسرائيل فى المنطقة

لقد أضعنا وقتا كثيرا فى الجدل السوفسطائى وساعات لا حصر لها فى مناقشة الدستور أولا أم الانتخابات أولا، والمادة الثانية من الدستور وفحوى وثيقة السلمى، وهل القوائم الفردية أفضل أم النسبية.. ورحنا نلقى بالجثث لمحرقة الكلام الدائرة ليل نهار على الفضائيات.. و.. وقت ثمين جدا لأن تسعة أشهر فى حياة وطن هى دهر كامل، ستظل لمسة ميدوسا تؤدى عملها، ما دام مبارك وأعوانه أحياء.. بالطبع لا أطالب بفصل جهاز التنفس الصناعى، لكن أطالب بالانتخابات وأن تدور العجلة سريعا، وأن يتلقى اللصوص العقاب بدلا من هذه المحاكمات المملة التى نسيت إن كانت مستمرة أم لا.. هكذا نقضى على لمسة ميدوسا التى تحاول تدمير البلاد