قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, November 2, 2011

أنا أتذكر - 2 - شيرين


رسوم فواز

جاءت لتجلس معي على المائدة، وبيد واثقة بلا رجفة صبّت لنفسها بعض الماء في كأس، وقالت لي وهي تبلل شفتيها:ـ
ـ"ماء فقط؟ لا تشرب؟"ـ

قلت لها وأنا أرمق المدعوّين:ـ
ـ"لا أشرب.."ـ
ـ"والسبب؟ متديّن؟"ـ
ـ"الدين طريقة حياة.. ينشأ المرء في بيت يتعلّم معه أن يغسل يديه قبل الأكل وبعده، ولا يأكل السمك من دون سلطة، ولا يشرب الخمر أبدًا..! أي أن هذا السلوك الديني يتحول للطريقة السلوكية الوحيدة التي يعرفها.. هي طريقة حياة كما قلت"ـ

ضحكت كثيرًا حتى غلبها السعال، ثم قالت:ـ
ـ"هل قابلت جلال الشريف؟"ـ
ـ"لا.."ـ
ـ"هل أنت من أصدقائه؟"ـ
ـ"لا.. صديقي عادل من أصدقائه، وقد دعاني هنا كما يدعو الناس بعضهم للسيرك"ـ

قالت بطريقة عابرة:ـ
ـ"اسمي شيرين.."ـ
ـ"أعرف هذا.."ـ
ـ"جلال قريبي.."ـ
ـ"أعرف هذا.."ـ

كان الشعر يغطي عينيها فلا تراهما أبدًا.. فقط تدرك أنهما هناك خلف الستار وأنهما تنظران لك

كان الشعر يغطي عينيها فلا تراهما أبدًا

**************

عينا سديم كانتا كذلك
غالبًا ما تكونان خلف الشعر فإذا انزاح الستار أدركت أنهما شفافتان تمامًا.. كانت خجولاً جدًا خاصة عندما يحدث شيء كريه مثل أن ينفصل إصبع من يدها أو يسقط جزء من الجلد. كانت تداري هذا في خجل رغم أنني أخبرتها مرارًا بأنني لا أبالي

كانت تقول لي:ـ
ـ"سوف أنتهي يومًا.. أنت تعرف هذا.."ـ
ـ"لا أرى هذا اليوم.."ـ
ـ"التحلل حتمي.."ـ
ـ"لكنه بطيء.. سوف ألحق بك في القبر قبل أن يسقط لك ظفر آخر.."ـ

وكانت تضحك ثم تدعوني للعب.. تركض بين شواهد القبور وأنا أركض خلفها
لقد صارت سديم ضرورية جدًا لعالمي. صرت أتأخر عن البيت كثيرًا وصرت أشرد بلا توقّف.. عندما آكل أعبث بالشوكة في طعامي ولا ألتهم شيئًا. أمي قالت لأبي وأبي أخبر عمي، وفي النهاية قال الجميع بخبث:ـ
ـ"الحب! تالله هو الحب!"ـ

أبي كان سعيدًا لأنني نضجت وكبرت ولأن هرموناتي بدأت تعمل، لكنه نصحني بألا أضيع وقتًا كثيرًا.. الحب قد يبني حياتك وقد يدمّرها

لم أكن أنوي إخفاء أي شيء.. قلت له إنها سديم.. قلت إنني أقابلها في المقابر.. قلت إنها تتحلل وجلدها يسقط.. ذات مرة وضعت يدي على ظهرها فشعرت بالرئة تحت أناملي من تحت الثوب. أصابها خجل شديد وطلبت مني ألا أفعل هذا ثانية

قال أبي في ضيق إنني أخرف
على أنني عدت له في اليوم التالي ومعي البيانات.. الاسم سديم فتحي الجوهري.. توفيت منذ عام ونصف.. تتحدث كثيرًا عن الغرق. لا أعرف التفاصيل

قال أبي في ضيق إنني أخرف

سخر أبي مني كثيرًا.. على أن زياراتي للمقابر استمرت فترة طويلة، وفي النهاية قرر أن يبحث في المقبرة عن هذا الاسم الذي سمعه. دفع مالاً للّحّاد الذي جعله يرى القبر

قال لي أبي إن فريق البيتلز البريطاني وجد مقبرة قديمة عليها اسم "إليانور رجبي"، فخطر لهم كيف كانت هذه المرأة تعيش حياتها. كتبوا عنها أغنية شهيرة جدًا، وما زال قوم كثيرون يعتقدون أنها ما زالت حية، ومن صدّقوا أنها ماتت ما زالوا يزورون قبرها

ـ"الموتى قد يكونون أكثر حيوية من الأحياء.. وأنت قد منحت سديم هذه حياة خاصة بها.."ـ

على أن اللحّاد أخبره بأن الفتاة ماتت غرقًا. كانوا أثرياء وكان هناك حمام سباحة في البيت.. القصة الشهيرة عن الأهل الذين يهملون الطفل فيقع في حمام السباحة ليلاً ويموت
هذا أثار قلق أبي.. من أين عرفت أن الفتاة ماتت غرقًا؟؟

الطبيب حدثني عن الوساوس وحدثني عن الشخصية الأخرى الموجودة في ذهن كل طفل، والتي يتبادل معها الكلام. لكني كنت غارقًا في الحب ولم أشأ أن أفقدها

كانت تلك هي الأعوام التي ظهرت فيها أغنية إيزاك هايز "لو كان حبك خطأ فلا أريد أن أكون على صواب"، وكانت تناسب الوجيعة بالضبط

**************

والأغنية تتردد الآن
هذه الليلة فريدة من نوعها.. برغم الفتيات الجميلات والصخب والزحام، ثمة رائحة ما أعرفها.. سوف يحدث شيء مهم

الأغنية تتردد:ـ
لو لم أرك عندما أريد.. فلسوف أراك عندما أستطيع
لو كان حبك خطأ فلا أريد أن أكون على صواب
أنا مخطئ لأنني جائع لرقة لمساتك
بينما هناك من ينتظرني في الدار

ما الذي ذكّرهم بهذه الأغنية؟
الفكرة هنا هي أن موقفي الأخلاقي لم يكن بهذه الدرجة من السوء..أنا لا أخون زوجة.. لكني كنت أخترق الحاجز الفاصل بين الموت والحياة
عرفت من يحب فتاة ليست من دينه وكان هذا حاجزًا مهمًا
هنا نجد حالة فريدة أن يحب المرء فتاة ليست من حالته البيولوجية
سديم يا جميلتي.. سديم

وشيرين تنظر لي ثم تدسّ ملعقة من السلطة بين شفتيها وتقول:ـ
ـ"أقسم بالله إنك تحب.. هذه نظرات عاشق.."ـ
غرست الشوكة في السلطة وتذوّقتها.. مالحة جدًا.. مالحة جدًا

**************

شيء آخر كان مالحًا بذات الدرجة
ربما دموعي وأنا أشرح لأبي أنه ليس بوسعي الاستغناء عن سديم. لن أحكي موضوع الإصبع المتآكل الذي وجدته أمي في جيبي طبعًا.. لم تكن قد سمعت عن النكروفيليا لذا كان الجنون هو الافتراض الوحيد لديها.. أنا جُنِنت بلا شك

تم الفراق في يناير من ذلك العام عندما قرر أبي أن ننتقل لبلدة أخرى. وقد راق له هذا؛ لأنه سيحل مشكلتي بشكل غير متعمد
هكذا ابتعدت عن هذه المقبرة ولم أر فتاتي بعد هذا طويلاً، لكنني ظللت أحمل لها ذكرى لا يمكن نسيانها

وبعد أعوام صرت ناضجًا، وصممت على أن أعود إلى المقبرة لأبحث عنها. هذه الذكرى القوية المؤثرة. هل هي هلاوس طفولة فعلاً؟ يجب أن أعرف
آه.. أرجو أن تمنحوني لحظة لابتلاع قرص من المهدئ لأنسى

.......

يُتبَع