قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, December 3, 2010

إعلانات حتي الممات


الآن تعال نشرب الشاي وننعم بنعمة الصمت .. نحن نتكلم طيلة اليوم ولا نعطي أنفسنا فرصة واحدة للسماع أو تكوين آراء . عندما ننصت فلأننا نرتب ما سنقول في الجملة التالية .. إن مسرحية ( الخراتيت ) ليونسكو تلخص كل شيء لكن ليس هذا موضوعنا علي كل حال ..

أحب الشاي الذي تعده .. رديء جدا لدرجة أنه جيد كما يقول الغربيون ..

يبدو أنني سأخرق الصمت الآن .. كنت أشاهد مجموعة من الإعلانات في التليفزيون منذ قليل فخطر لي أن فن الإعلان عندنا تطور جدا لكنه لم يتحرك خطوة واضحة في طريق فهم سيكولوجية المشتري نفسها .. بعض الإعلانات مستفز وبعضها مخجل وبعضها يحاول مجاراة العصر إلي درجة أنك لا تفهم حرفا مما يقال .. بعض الإعلانات جميلة فعلا لكن الإعلان ينتهي دون أن تعرف عن أي شيء يتحدث..

كانت أولي تجاربي في طفولتي مع فن الإعلان هي مع الباعة الذين ينادون علي بضاعتهم بطريقة حرفية منغمة فيصير من المستحيل أن تعي حرفا مما يقولون . مثلا كان هناك ذلك الرجل النحيل الأسمر الذي يقف جوار مدرستي وينادي بأعلي عقيرته : ' شيها دوج دوج'. أما بضاعته فشيء مغطي لا يمكن أن تعرف كنهه .. ربما هو ضفادع محمرة أو ثعابين مقلية أو ألغام دبابات من الحرب العالمية الثانية. ظل الفضول يغلبني خاصة أنني لا أجرؤ علي الاقتراب لسؤاله عما يبيع ولم أر في حياتي من يشتري منه قط فيبدو أن كل الأطفال لا يعرفون ما يبيع .. في النهاية جرؤ أحدنا علي أن يقترب ويكشف الغطاء .. عندها اكتشف أنه يبيع نوعا من الحلوي .. وعبارة ( شيها دوج دوج ) ليست سوي ( فيها بندق ) منغمة وممطوطة وملوية بحيث صار من المستحيل أن تعرف ما تقول .. وطبعا لم يكن فيها بندق.. تعلمت أن الكذب والجعجعة جزء مهم من الدعاية ..

بائع آخر كان يقف تحت شرفتنا كل عصر ويصرخ ( هيآآآآآآآآ أوووووووه !) كأنه طرزان ينادي حبيبته شيتا في الغابة . وقد سألت كل أفراد أسرتي عما يبيعه فلم يعرف أحد واقترح أبي أن الرجل يبيع أكياس قمامة بينما اقترحت أمي أنه يبيع مشانق .. في ذات يوم سعيد دنت منه طفلة فكشف لها الغطاء عما يبيعه .. كان يبيع الزبادي لكن لا تسأل من فضلك عن علاقة الزبادي بالـ ( هيآآآآآآآآ أوووووووه!).. يبدو أن الصيحة أهم عنده من البيع ويعتبرها إهانة أن يصيح بصوت واضح النبرات : ( زبادي ) !

كان هذا درسي الأول عن الدعاية التي تجعلك لا تشتري شيئا .

بدأت إعلانات التليفزيون تكتسب شعبية . في طفولتي كانت تعتبر من الفقرات المهمة في التليفزيون والتي تجتمع لها الأسرة وتشعر بالدفء. هل قلت فقرة.. طبعا لأن إعلانات ذلك الزمن لم تكن تؤمن بالوقت . الإعلان يأخذ راحته تماما كأنه فيلم قصير .. لت وعجن وقصة وذروة .. كان هناك إعلان شهير عن شهادات الاستثمار (الفايدة متزايدة) عرفت فيما بعد أنه محاولة الإغراء الأولي للثنائي (أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام) المتمرد كي يصير برجوازيا ويمشي مع التيار . يرى نجم أنه نجا وأنقذ الشيخ إمام بمعجزة من هذا الشرك.

لا أذكر كل الإعلانات وقتها ولو تذكرتها فلن أكتبها هنا لأن معظم هذه السلع ما زال موجودا . لكني مثلا أحتفظ بمودة خاصة لصوت عبد العزيز محمود المليء بالشجن وهو يقول ( أنا الميلامين .. جامد ومتين ).

لا يذكر أحد متي ولا كيف عرفنا الشاب الظاهرة (طارق نور) الذي غير وجه الإعلان في مصر للأبد .. هذا الشاب كان له بالتأكيد ارتباط قوي بالبرنامج الأوروبي وله فكر غربي كامل. قرر طارق نور أن ينتج إعلانات غربية بالكامل علي أرض مصر وبالاستعانة بالأجانب الموجودين في مصر .. هكذا ظهرت إعلانات مبهرة غريبة علينا مثل إعلان مزيل العرق الشهير الذي يدور حول رجل إيطالي يشك في زوجته التي تدوي ضحكاتها من الطابق العلوي .. يهرع هناك مصمما علي قتلها فيكتشف أنها تمزح مع مزيل العرق!.

ثم تفتق ذهن طارق نور عن أن الفتاة الغربية تبدو أجمل إذا لبست ملاية لف وهكذا ولدت إعلانات مثل (واحد اتنين تلاتة .. حاجيب لك عربية). لا ننكر أنها كانت إعلانات ذكية .. أعتقد كذلك أن طارق نور هو أول من كرس مبدأ أن الفتاة المصرية السمراء ذات العينين السوداوين ليست جميلة ولا غزالا ولا حاجة كما نقنع أنفسنا. بل هي ( بيئة ).. هناك فتاة واحدة جميلة هي الخواجاية ذات الشعر الأصفر والعينين الزرقاوين ويا سلام لو كانت تتكلم بعض العربية المكسرة. هذا قبل أن يسود مبدأ أن هناك طريقة حياة واحدة تستحق الكفاح من أجلها هي الحياة الأمريكية..

كانت هذه سنوات الانفتاح الأولي وقد ظهر في الإعلانات ذلك الصوت الرفيع المنبهر دائما يعبر أصدق تعبير عن الجنون الاستهلاكي الذي دخلنا فيه فلو كان للاستهلاك صوت لكان هذا صوته .. الحق نفسك .. وفر فلوسك .. انسف .. جدد .. اشتر الآن .. أما زالت معك نقود .. يا لك من أحمق !. هذا بالطبع مع الجرأة اللغوية (الحب من أول أطمة).. للمرة الأولي تكتب ( قضمة ) بهذه الطريقة .

أحيانا تنجح الإعلانات في خلق الخرافة .. مثلا تلك الإعلانات عن السمن الصناعي المليء بالدهون المشبعة .. أولا هي سلعة غير صحية بتاتا وما تنجح فيه فعلا هو ملء شرايينك التاجية بالكوليسترول .. ثانيا مذاقها غير محبب علي الإطلاق لكن الإعلانات تصر علي أن (الطعم بلدي وتحدي).. وتدور كل الإعلانات حول خبير الطبخ الذي يتناول ملعقة من السمن البلدي وهذا السمن ويفشل في معرفة الفارق .. طبعا هذا كذب ولا يمكن أن يخطئ معتوه في معرفة الفارق لكن تكرار الدعاية علي طريقة الخواجة (جوبلز) الذي يصر علي أن تكذب بضخامة وتكرر كذبتك هذا التكرار يجعل الكثيرين يعتقدون أن هذا صحيح أو فيه بصيص من الصحة..

يبلغ نفاق المعلنين ذروته عندما تذهب للخليج فتكتشف أن نفس إعلاناتنا بنفس الفتيات موجودة هناك لكن مع وضع حجاب علي رأس الفتيات!.. أي أن هناك صيغة لمخاطبة المصريين وصيغة لمخاطبة دول الخليج الأكثر تحفظا والتجارة شطارة في النهاية.

لكنك مع الوقت تكبر سنا و تتعلم الحقيقة التاريخية التي تقضي بأنك لن تحصل علي قطع اللحم العملاقة الظاهرة علي علبة الشواية التي اشتريتها وبالتأكيد لن يبيعوا لك تلك الحسناء مع السيارة.. عندما تذهب لشركة الاتصالات لن يقابلك ذلك الفتي الباسم الذي لا يتعب أبدا ولا يؤلمه فكاه من كثرة الضحك..
لكن هناك جيلا من صغار السن ما زال يتعلم..

بعد عصر الحماسة وعصر الكذب جاء عصر جديد ...
منذ زمن بعيد وقيمة الكفاح والعمل معني مقدس لا يمكن المساس به لكن إعلانات التليفزيون منذ أعوام اخترقت هذا التابو ببساطة.. المهندس عباس كافح في تعمير الصحراء عشرين سنة حتي صار شيخا أصلعا مهدما واشتري سيارة مرسيدس.. يا له من أحمق!.. بينما الولد الروش فلان اتصل برقم هاتفي من (0900) وعلي الفور حصل علي نفس السيارة ..!
هكذا في ثوان سخر الإعلان من قيم الكفاح ومن تعمير الصحراء ومن كل شيء .. لم تعد هناك قيمة في العالم إلا الروشنة والاتصالات..

بدأ الأمر علي استحياء مع بداية الانفتاح في أوائل الثمانينيات عندما سمح التليفزيون لمظاهرة شعبية بأن تظهر علي شاشته.. هؤلاء ناس حملوا قلوبهم علي أيديهم وودعوا أطفالهم من أجل القضية الوحيدة التي تهمهم ومن أجلها نضحي بكل مرتخص وغال : المياه المعدنية..

بعدها رأينا مع هشام سليم كيف أن شرائح البطاطس المقلية هي العامل الوحيد الذي يجمع طبقات الشعب وكل فئاته.. وظهر أحمد السقا الذي يضغط عليه الزبانية ويعذبونه وهو مربوط في قبو مخيف لكنه يصر علي الهتاف من أجل قضيته : المياه الغازية.. ويوشك أن يقول : والله لأموتن عليها..

المجال الثاني الذي خرقت فيه الإعلانات التابو هو مجال الدين.... لم ترحم الإعلانات ظاهرة التدين هذه وقررت أنها مفيدة جدا.. لقد انتهي عصر صوت محمد الطوخي الوقور المتهدج الذي يقول : وهبة الجزء عشرة جنيهات.. هناك إعلان جذاب يسمع فيه الشباب أغنية دينية من الموبايل فيتركون لعب الاسكواش نشاط الشباب المصري المعتاد ليلبوا النداء.. وهكذا تصل الرسالة : اشتروا خطوط الموبايل الجديدة واعطوني مالكم كي ننعم جميعا بلذة الإيمان ومستقبل باهر في حب مصر..

الصيحة الأحدث في الإعلانات هي الإعلان الذي لا علاقة له بشيء علي الإطلاق.. غرابة لمجرد الغرابة.. اشتهرت شركة (بنيتون) للملابس الجاهزة بهذه الإعلانات العجيبة التي أثارت جدلا فتارة تقدم لك بألوان ممتازة رجلا يلتهم سمك القرش جسده الممزق وتارة تقدم محتضرا يحيط به أفراد الأسرة الباكون وتارة صورة رضيع ملوث بالدم .. مع عبارة صغيرة تقول : 'الألوان المتحدة من بنيتون'. لابد أن الموضوع خضع لدراسة نفسية مدققة لكن بصراحة لا أفهم .. معلوماتي أن الإعلان يجب أن يكون جميلا ولا يكون ضربة بالمطرقة علي الرأس لتتذكر للأبد..

مثلا أنت تشاهد تلك الحملة الخاصة بـ (وديع) و (تهامي بيه) ولا ننكر أنها ظريفة وأننا نشاهدها في استمتاع لكن ماذا تريد قوله.. هل أن الأفلام العربية أسوأ من الأجنبية.. إذن لماذا تتهمون القناة التي أنتم فيها بتقديم أفلام رديئة.. ولماذا التلميح الوقح في عبارة (أفلام عربي أم الأجنبي) الذي فهمه كل طفل .. هناك إعلانات غريبة كذلك حول القناة التي (تتحدي الملل) ولا تفهم عن أي شيء تدور بالضبط .. هل القناة هي ذلك الفتي السمج المترهل.. إذن بئس الدعاية.. الغرض كما هو واضح هو التهريج لا أكثر واستعراض الموديلات الفاتنات..

الإعلانات تخطت حاجز الجرأة بالفعل من ناحية الثياب والتلميحات .. تقول الخبيرة النفسية داليا الشيمي في موقعها (عين علي بكره): 'هي كارثة بكل المقاييس فلو اعتدنا الأمور لهذه الدرجة فسوف نجد إعلانات قادمة خلال سنوات قليلة داخل حجرات النوم دون الحاجة للإيحاءات أو الإشارات علي طراز أفلام عربي ... أم الأجنبي !!!! فكثير من الأشياء مثل الكرامة والشرف والفضيلة وغيرها تماما مثل الثوب المصنوع من الصوف إن سحبت منه ( غرزة ) تحول إلي خيوط لا تستر عورة ولا تصلح لتكون لباسا يحمي الإنسان'.

وكالعادة أنا لا أؤمن بوجود مخطط لهدم الشباب.. افتراض وجود مخطط يوحي بأن هناك عقلا مدبرا لكن الإعلانات في مصر لا تتحرك وفق أي شيء سوي العشوائية كمستعمرة نمل مذعورة.. وغدا سوف نري التابوه الجديد الذي سوف تخرقه الإعلانات لو كان لنا عمر..

هذا الشاي أسوأ من المعتاد.. ماذا.. هل صدقت الإعلانات الكاذبة وابتعت هذا النوع بالذات.. هلم اسكبه وأعد لنا كوبين آخرين.