قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, October 27, 2010

مما سبق - المدونات والدستور ومرض (توريت) ..! ـ

نشرت تلك المقالة من قبل تحن عنوان "مرض (توريت) من جديد" 13 أبريل 2010 في جريدة الدستور
http://ahmed-khaled-tawfik.blogspot.com/2010/04/blog-post_13.html

و لكن وجدتها بنص أكبر .. لذلك نعيد نشرها بذلك النص

===================================

في العام 1884 وصف الطبيب الفرنسي (جيل دولا توريت) تسعة من المرضى يعانون مرضًا وراثيًا غريبًا يتكون من لازمة قهرية من التقلصات العضلية والسباب البذيء جدًا .. وقد وصف هذا المرض لدى الماركيزة (دي دامبريير) العجوز الوقور التي كانت تأتي بحركات غريبة بعضها قبيح جدًا، مع كثير من السباب، وقد بدأ المرض عندها منذ سن السابعة .. هذا هو مرض (توريت Tourette) الذي يعرفه الأطباء النفسيون جيدًا، والذي يعتقدون أنه منتشر اليوم أكثر مما نحسب.. 

هناك شواهد تاريخية سابقة على وصف المرض ومنها رجل من النبلاء الفرنسيين – نسيت اسمه – كانوا يقيدون يديه خلف ظهره كي لا يقوم بحركات بذيئة بإصبعه في حضرة لويس الرابع عشر !

إن السباب البذيء في كل مناسبة هو عرض مرضي يعرف باسم (كوبرولاليا)، ويمتاز بأنه يخرج من المريض تلقائيًا حتى لو لم يثر أعصابه أحد .. نفس الشيء ينطبق على الحركات القذرة باليد أو لمس العضو التناسلي باستمرار (كوبروبراكسيا) .. وهناك النوع الثالث (كوبروجرافيا) وهو الولع بكتابة البذاءات خاصة على الجدران (ادخل أية دورة مياه عمومية واقرأ ما كتب خلف الباب لتعرف أن المرض منتشر) .. هناك كذلك الولع بعرض الجسد العاري أمام أفراد الجنس الآخر لإثارة اشمئزازهم .. 

ترى هل مرض (توريت) نادر حقًا كما اعتقد الخواجة الذي اكتشفه ؟

كنت جالسًا على ذلك المقهى جوار مجموعة من الشباب، وكان صوتهم عاليًا جدًا إلى درجة أنك لا تستطيع إلا أن تعتبر نفسك ضمن شلتهم.. لاحظت أولاً أن صوتهم نفسه تغير وأنهم يتكلمون بذلك الصوت الحلقي العالي وطريقة (التطجين) التي اعتدنا أن ننسبها للبلطجية وأصحاب السوابق (برغم أنهم ميسورو الحال كما هو واضح).. ثانيًا لاحظت أنهم لا يتكلمون إلا في ثلاثة مواضيع: السيارات .. الفتيات (المُزَز).. الموبايلات .. ويستحيل أن تجد موضوعًا آخر يخرج عن هذه الدائرة .. ثالثًا: كانت نسبة البذاءة في كلامهم مذهلة .. لا توجد جملة واحدة تخلو من اتهام أم الآخر بالعهر، أو ذلك الصوت السكندري الدال على الاحتجاج ، لكنهم كانوا بصراحة معتدلين في سب الدين؛ فلم يكونوا يسبونه إلا كل ثلاث جمل .. ترى هل مرض (توريت) نادر حقًا كما اعتقد الخواجة الذي اكتشفه ؟

***

بحكم السن اكتشفت عالم مدونات الإنترنت blogs منذ فترة قريبة جدًا، ووجدت أن كثيرين من أصحاب المدونات بارعون حقًا وجديرون بأن يكون لهم عمودهم اليومي في الصحف بدلاً من الأقلام الحالية التي تعذبنا، لكني لاحظت كذلك مدى تفاقم ظاهرة (الكوبروجرافيا) .. يثير رعبي مدى ما يمكن أن ينحدر إليه المرء من بذاءة عندما يدرك أنه بعيد عن العيون فعلاً .. وأنه ما من أحد يراه سوى الله !.. نعم .. لا توجد مبالغة هنا .. معظم الناس لا يكفون عن الكلام عن الدين، لكنهم عندما يخلون إلى شياطينهم يتحولون إلى ما هو أسوأ .. والحقيقة المخيفة التي أدركتها هي أن كثيرين من الناس لا يعتقدون أنهم مرتدون إلى الله ولا أنهم سيخضعون للحساب.. يقولونها بألسنتهم لا قلوبهم.. فلو كان لديهم أدنى شك لكانوا أكثر حذرًا في كلامهم .. وإلا فكيف يفسر المرء أمام نفسه كل هذا القدر من البذاءة وقذف المحصنات والكذب ؟... وكما يقول أبو نواس:
ألم ترني أبحت اللهو نفسي .. وديني واعتكفت على المعاصي ؟
كأني لا أعود إلى معاد .. ولا ألقى هنالك من قصاص

كان هناك مقال نشر على الإنترنت للكاتب الشاب الموهوب (محمد فتحي) – وهو عضو هيئة تدريس في كلية الإعلام بالمناسبة - عن فيلم (عمارة يعقوبيان)، وفكرة المقال تتلخص في أن تيمة الشذوذ الجنسي في الفيلم أثارت حفيظة أعضاء مجلس الشعب، بينما هم لم يبالوا بالمشاهد ذات الإيحاء الجنسي الصريح .. وهذا أثار دهشة الكاتب .. بس خلاص .. أختلف مع الفكرة ولم يرق لي المقال كثيرًا، لكن الأمر ينتهي عند هذا الحد، والموضوع يحتمل الخلاف والجدل بشكل متحضر: أنا لا أرى رأيك ومبرراتي كيت وكيت .. 

فوجئت بالردود التي تحمل أسماء مستعارة تتهم الكاتب الشاب بقائمة التهم المعدة مسبقًا لمن نختلف معه في وجهة النظر (العمالة – الإلحاد – الشذوذ) قد يختلف الترتيب لكنها ثلاثية إجبارية مع الذكور، بينما مع الفتيات تتحول المنظومة إلى (العهر – العهر – العهر).. هكذا انهالت الشتائم على الكاتب بعنف لا يمكن وصفه إلا بشهوة (الكوبروجرافيا) حتى تحولت الصفحة إلى مستنقع ...

أحد الأذكياء أرسل يقول: " الكلام بيبان من عنوانه ، وانا فهمتك من عنوانك ياتوحة".. الكثيرون اتهموه بالعلمانية وأنه عميل للمباحث .. المعتدلون اتهموه بأنه مراهق .. أحدهم قال له :" زكر فإن الزكرى " كاتبًا الآية القرآنية بهجاء خطأ .. إلى درجة دخول "لا للتوريث" في الموضوع والدعوة إلى الجهاد و.. هناك آلاف الشتائم التي لن تطيق سماعها منطوقة فما بالك بها مكتوبة ؟.. دعك من الأخطاء الهجائية التي تجعلك تتساءل: اتعلموا فين دول ؟.... هناك داء جديد هو داء (ذالك) و(لاكن) و(فتايات ) وداء نصب خبر (إن) "أعتقد أن الفيلم وقحًا" .. 

انفجار شرس من الأخوة المرضى المبتلين بالـ (كوبروجرافيا) .. حتى تراجع المحترمون العقلانيون من فرط التعب والقرف.. هؤلاء يوصلونك للحظة تسكت فيها من الاشمئزاز فيحسبون أنهم انتصروا وأفحموك.. وهي نفس براعة وقوة منطق العربجي الذي يشتمك بالأم وهو على ظهر عربته الكارو فتصمت، ومن ذا الذي يضيع وقته وكرامته في الجدال مع عربجي ؟ .. النتيجة هي أن الكاتب انسحب من الموقع ... 

***

لا أعرف الكثير مما يحدث في كواليس جريدة الدستور، برغم أنني نشرت فيها مرارًا، وأعتقد أن علاقتي جيدة جدًا بكل صحفييها .. لا أوافق رئيس تحريرها اللامع إبراهيم عيسى في نقاط عدة، وأرى أن الجريدة تجنح لاندفاع الشباب أحيانًا كثيرة.. والواقع أن هذا ما أراده إبراهيم عيسى بالضبط : أن تصدر صحافة جامحة من محررين في العشرينات من العمر ولهم .. لكن هذا لا يناقض رأيي الذي أقوله في كل مكان تقريبًا أن عيسى أهم ظاهرة صحفية عرفتها مصر في التسعينات، وأنه ذكي جدًا ، وأنه من أشرف الصحفيين، ولسانه الزلق الجامح يقوده إلى المهالك بإصرار غريب .. ولئن كانت أموره المالية قد تحسنت فهذا يعود لمزيج من توفيق الله وموهبته، فلا دخل لصفقات غامضة في هذا .. وقد كتبت عنه منذ عام في موضع آخر: "هناك موضة شجاعة عارمة في كل الصحف والمجلات .. الكل صار معارضًا جريئًا من دون سوابق تبشر بهذا .. ترى شبابًا في الثامنة عشرة من عمرهم يكتبون مهاجمين النظام بكل وضوح وبالأسماء، موضة شجاعة عارمة أرحب بها طبعًا بشرط أن تستمر وأن يكونوا مستعدين فعلاً لتحمل التبعات.. أما أنا فمنذ ست سنوات أو سبع كنت اقرأ مقالات (إبراهيم عيسى) و(علاء الأسواني) و(عبد الحليم قنديل) وسواهم من الشرفاء الذين فتحوا صدورهم للحراب عندما كان الجميع صامتين، وكنت أقول لنفسي: رباه !.. هؤلاء قوم بلغوا من الشجاعة مبلغًا .. "

هذا كله مفهوم إلى أن قرأت مدونات الإنترنت التي تتحدث عما يحدث في كواليس الدستور، وبالتحديد ما تلا انسحاب الفنان (عمرو سليم) و(خالد البلشي) و(عبير العسكري).. مستحيل أن يكون هذا الذي أقرؤه حقيقيًا .. إنه لكابوس !.. تشكيك في ذمة عيسى المالية وشرفه واتهامه بالعمالة للأمن، مع عدد لا بأس به من الشتائم التي لا يمكن التلميح لها .. المعركة تشتعل أكثر .. هناك من يرد باسم (عيسى) ومن يرد باسم (عبير العسكري) مناضلة الدستور النبيلة التي ضُربت في كل المظاهرات تقريبًا، وهناك قذف للمحصنات واتهام لصحفيات بما لا يمكن ذكره، ونشر للغسيل القذر من صحفيين شباب موتورين لم يحققوا شيئًا في هذه الجريدة أو شعروا بغبن حقوقهم (لابد أن تكون من الدستور لكي تعرف أن خالد كساب يستعمل لفظة قشطات كلازمة في كل كلامه).. والمدونات تزداد طولاً حتى صارت تملأ كتابًا كاملاً، وفي النهاية تشعر بأنك لا تقرأ جدلاً وإنما هي ذئاب مسعورة تتصارع .. الصديد المكبوت في النفوس يخرج حينما لا يوجد رقيب، ميل للعنف لا يمكن وصفه .. ها هو ذا مرض (توريت) يفصح عن نفسه .. 

الأمر لا يحتاج لصحفي كي يحلل الأمر .. الأمر يحتاج إلى عالم نفسي يفسر لنا سر كل هذا العنف .. هل هو انعكاس للعنف العارم في المجتمع ؟.. الأمر يحتاج لعالم دين يخبرنا لماذا يقذف الناس بعضهم البعض ويتهمون زميلاتهم في العمل في شرفهن بهذه البساطة، لمجرد أنه لا أحد يراهم إلا الله ؟.. لماذا تدهورت فكرة الحساب والعقاب في النفوس لهذا الحد ؟

بعض التفسيرات تقول إن أغلب هذه الردود من رجال أمن يهمهم تشويه الجريدة وسمعتها .. إن الدستور جريدة جامحة فتحت النار على الجميع تقريبًا، ولها أعداء كثر يهمهم أن يمزقوا ثيابها على الملأ .. بالنسبة لي أرى أن هذا التفسير يفترض أن الشباب جميعًا بخير .. إذن من أين جاء الشباب الذين قابلتهم على المقهى، والذين لا يكفون عن إطلاق الأصوات السكندرية الحلقية ؟.. على كل حال أتمنى أن يكون هذا التفسير الأمني صحيحًا فهو يريحني بشكل خاص، ويخبرني أننا لسنا بهذا الغباء .. أن ندمر كل شيء جميل بنيناه معًا، وذلك الاستعداد الكامن في الجينات العربية للحرب الأهلية حتى على مستوى جريدة ..

ما زلت مصرًا على أن الدستور في إصدارها الأول كانت أفضل وأمتع، لكن هذا لا دخل له برأيي النهائي .. الدستور عمل جماعي رائع وإبراهيم عيسى قيمة صحفية يمكن أن نختلف معها بشدة لكننا نحترمها بشدة أكبر .. فلتمارسوا (الكوبروجرافيا) في مكان آخر من فضلكم ، أو لتطلبوا العلاج لدى أقرب طبيب أمراض نفسية .. قولوا له إن اسم مرضكم هو (متلازمة توريت).. وهو سيتصرف والشفاء قريب بإذن الله !