قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, October 25, 2010

مما سبق - فما أنت يا مصر دار المضارب

عندما حدث انهيار البورصة في مصر وعدد من الدول العربية، رأينا ذلك المصري المسكين الذي يظهر دائمًا في النشرات .. يصرخ وقد مزق أزرار قميصه ليقف عاري الجذع ، وهو أداء مصري كلاسيكي للتعبير عن الجزع والإفلاس وإنه لا يبالي بشيء بعد الآن .. وذلك الذي سقط على الأرض والناس يرشون الماء على وجهه .. نفس الرجل – بعينه – رأيته يصرخ أمام شركة توظيف الأموال المغلقة، ورأيته يصرخ أمام مسرح بني سويف، ورأيته يصرخ بعد زلزال أكتوبر المشئوم، ورأيته يصرخ وهو ينتظر جثة قريبه الغارق مع العبارة أو المحترق في قطار الصعيد .. إنه المصري الأبدي الذي خدعوه وباعوا دمه وكليته وأطعموه الفراخ الفاسدة والزيتون بالورنيش .. المصري الذي جعلوه يعبد آمون ثم استبدلوا به آتون ثم أعادوا آمون ثم أقنعوه أن بونابرت مسلم صادق الإيمان ..
لكني – في هذه المرة بالذات – لم أكن قادرًا على التعاطف معه، بينما بكيت معه في مواقف أخرى. أنت دخلت سوقًا خطرة غير مستقرة يا صاحبي، وقد أغرتك المكاسب الفاحشة التي جناها الناس في أول فبراير بلا أدنى جهد ..سمعت قصة السيدة التي ربحت مليونًا في يومين.. لقد قامرت وعليك أن تتحمل نتائج المقامرة، فلا تحاول إقناعي أنك من ضحايا العبارة أو قطار الصعيد من فضلك .. 

ربما تلاعبت بك الحكومة من أجل بعض الحيتان الكبار .. وما الجديد في هذا ؟.. هل هناك استقرار حقيقي في مصر يسمح بالمخاطرة ؟ 

يقول (مصطفى صادق الرافعي ) في لحظة (قرف) مرت به في نهاية العمر:
فما أنت يا مصر دار الأديب .. وما أنت بالبلد الطيب
يمكن استخدام هذا البيت في حالتك مع استبدال كلمة (المضارب) أو (المستثمر) بـ (الأديب)، برغم أن هذا يكسر الوزن .. 

أمريكا – معقل الرأسمالية - شهدت كسادًا عظيمًا في أواخر العشرينات وهي قصة يعرفها كل من درس الاقتصاد، ولكن لا بأس من أن نتذكرها .. بدأ كل شيء في تلك الجمعة السوداء في أكتوبر عام 1929 .. هبوط مروع في الأسهم أحدث دوامات في العالم كله، ووجد بعض الأثرياء أنهم صاروا متسولين يطلبون اللقمة لأولادهم، وقد هبط مؤشر (داو جونز) في الفترة بين 1929 و1932 من 381 إلى 41 .. كان هذا الانهيار بعد فترة ازدهار غير مسبوقة في السوق، وهو نموذج للذعر العام عندما يحل بالمستثمرين مرة واحدة، بحيث يحتاج الأمر إلى علماء نفسيين أكثر منه خبراء اقتصاد .. 

إنه عصر الجاز – النغمة وليس جاز الوابور – حيث راح الكل يجرب هذه اللعبة الجديدة المسلية: البورصة، فقد انتهت الحرب العالمية الأولى وغزت الكهرباء كل شيء واعدة بأنماط استهلاكية جديدة .. كانت هناك عادة شراء السهم (على الهامش) أي أنك تذهب للسمسار ولا تدفع ثمن السهم من جيبك، بل تدفع 10% وتقسط الباقي على عدة أشهر .. يرتفع ثمن السهم وبالتالي تسدد ثمنه وتربح. خافت الحكومة الفيدرالية من أن تتدخل في العملية حتى لا تحدث ذعرًا عامًا .ومارست سياسة عصر هوفر الشهيرة: (دعه يعمل .. دعه يمر).. أي بالعربي: سيبهم في حالهم ..

لكن خلف الأبواب المغلقة في مؤسسات الاقتصاد كان هناك الكثير من القلق .. كان السماسرة يقترضون كل هذا المال من المصارف ... أضف لهذا تشبع السوق بالكماليات كالثلاجة والسيارة بحيث لم يعد المستهلك بحاجة للمزيد وهذا أدى لبطء الاقتصاد .. بالتالي وقع الانهيار المروع..

يقول خبراء الاقتصاد إن هذا الهبوط دوري، لكن الولايات المتحدة استطاعت تأجيله في القرن العشرين بفضل الحاسبات الآلية ولأنها تعلمت من دروس الماضي.. فإذا كان هذا حال أمريكا فماذا عنا نحن حيث لا يوجد أي نوع من التخطيط من أي نوع ...؟.. كنت أعتقد أن الاقتصاد من أعقد العلوم وأكثرها استغلاقًا على الفهم، ثم وجدت أن المسئولين عن الاقتصاد في بلادنا يرون الرأي ذاته.. هذا الشاب المتأنق الذي يلبس القميص قصير الكمين وربطة العنق ويضع (البلو توث) في أذنه ويعلق (البيجر) في حزامه، يمتاز بشيء مهم: إنه لا يفقه شيئًا على الإطلاق في الاقتصاد ... لهذا هو يعمل في البورصة ويحقق كل هذه المكاسب .. 

في فيلم (وول ستريت) الذي أخرجه (أوليفر ستون) نرى سمسار الأسهم (تشارلي شين) الطموح الذي وقع فريسة الرغبة في الكسب السريع.. يقترب من القمة جدًا ...ثم ينهار كل شيء .. يعود لأبيه الذي يعمل ميكانيكيًا في مصنع، فيلومه الأب قائلاً: "أنت لا تخلق شيئًا .. لا تزرع أشجارًا ولا تصلح آلة ولا تبني بناية ولا تعالج مريضًا .. كل ما تفعله هو بيع كلمات ووعود وأوهام .. حاول أن تجد لك مهنة حقيقية تنفع الناس .."

هذا هو كل شيء .. البورصة سوق بضاعتها الوحيدة الجشع .. من يدخلها يعرف ذلك وعلى من يغادرها أن يعرف ذلك .. 

في هوجة قصة توظيف الأموال التي شغلت التسعينات، بح صوت خبراء الاقتصاد وهم يقنعون الناس إن هذه الشركات نصابة، وإنه لا سبيل لمنح هذه الفوائد العالية إلا بالسحب من رصيد المودع نفسه .. لكن الناس لم تصدق .. أقنعت نفسها أنها تهرب من ربا البنوك إلى حيث البركة واقتصاد (سيب فلوسك مع الحاج وماتسألش ).. وما زالوا مقتنعين حتى اليوم إن التجربة كانت ناجحة إلى حد أن الحكومة قررت تدميرها .. بعد فترة يتبين أن تلك الشركات كانت تضارب بالذهب .. يتضح أن أحد أصحابها كان يتعاطى المخدرات .. يعترف (أشرف السعد) في قناة الجزيرة قائلاً (أنا جزء من منظومة الفساد) كأنه بهذا نال صك الغفران وصار ضحية، وبرغم هذا يصر الناس على أن التجربة كانت ناجحة جدًا وأن الحكومة أفشلتها .. والقصة بعد كل هذا لا علاقة لها بالربا ولا أي شيء سوى الجشع .. الكثير منه.. خذ نقودك من حيث تعطي فائدة منخفضة إلى حيث تعطي فائدة أكبر، لكن الحاج يطيل لحيته ويلبس الجلباب فلابد أنه رجل مبروك  لابد أن تجارته حلال ..

والأمر في النهاية لا يزيد على ذلك الذي يعطي تحويشة العمر لساحر أفريقي يزعم أنه قادر على مضاعفتها .. هنا يذوب العقل ويتبخر المنطق فلا يبقى إلا حلم الثراء السهل .. ليس لهذا الرجل أن يملأ الدنيا صراخًا عندما يفر الساحر إلى (غانا) حاملاً تحويشة العمر ..
ثم تعال هنا .. لو كان الأمر موضوع مال حلال وبعد عن الربا، فلنسمع ما يقوله العلماء عن جزء من الموضوع هو المضاربة على العملات ..

في فتوى للشيخ د. محمد العصيمي يقول: "المتاجرة في العملات حرام عندي للأسباب الآتية :
1- نهى السلف عن جعل النقود مجالاً للمضاربة (منهم ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي والمقريزي وغيرهم).
2- العملات التي يوفرها الوسيط هي عملات مبيعة على المكشوف. فليس لدى السمسار شيء منها، أو عنده بعضها وليس عنده كل المبلغ.
3- لا يتم التقابض في بيع النقود الآن، بل البيوع تتم عبر آلية مخالفة للشرع، وهي تسليم الثمن والمثمن بعد يومي عمل، وما يحصل من تغيير في حسابات العميل ليس القبض الشرعي، بل هو تقييد في الحساب، وتحصل المقاصة في نهاية دوام اليوم، ويحصل التسليم الفعلي بعد يومي عمل.
4- كثير من الوسطاء العاملين في البورصة يقدمون خدمة الرافعة المالية، وهي قرض من السمسار للعميل وعليه فأي رسم يأخذه السمسار على القرض فهو ربا، وأي رسم يأخذه السمسار على عمليات العميل فهو من المنفعة في القرض، وهما محرمان.
5- دلت التجارب على أن المتاجرة في العملات ضارة بالاقتصاد.
6- ودلت التجارب على أن صغار المتاجرين في العملات هم أكثر الناس عرضة للخسارة، وعليه فمن كان مستعداً للخسارة الكبيرة، وهم غالباً كبار المتعاملين، مثل: الصناديق الاستثمارية الكبيرة جداً وغيرهم، فهذا يدخل السوق ويتحمل الخسارة إلى أمد معين، ثم يربح في النهاية، أما الصغار فهم حطب نار الخسائر التي تمر على العملات. ختاماً: هل نحن بحاجة فعلاً إلى الدخول في هذه المخاطرة، وإحراق أموال المسلمين لصالح هؤلاء السماسرة الغربيين الكبار؟"

هذا ما قاله (العصيمي)، أما ما يقوله الشيخ (القرضاوي) عن البورصة فهو: "لا أستطيع أن أقول كلمة البورصة هكذا لوحدها فمن الواجب تفصيل أعمالها وأنشطتها، فإذا كان هناك أنشطة تتعلق ببيع العملات فبيع العملات تحكمه قواعد معينة وهو أنه إذا اختلف الجنسان فبيعوا واشتروا كيف شئتم إذا كان يداً بيد، فلابد من الفورية كعملية شراء دولارات بريالات أو بالجنيهات الإسترلينية أو بالين الياباني أو بالمارك الألماني أو أي شيء فلا مانع أن تشتري ولكن بشرط ألا يدخل الأجل في القضية، دخول الأجل معناه التحريم.. إذا دخل الأجل في هذه القضايا أصبح معناه أن الربا دخل في الموضوع"

هذان الرأيان منشوران وواضحان وهما لا يحرمان البورصة لكنهما يقولان بوضوح إن الأمر حساس يحتاج إلى حذر وترو شديدين، لكن رواد منتديات الإنترنت لا يعلقون بحرف وإنما يردد كل منهم إنه يشعر بارتباك، و(والله حيرتونا معاكم) كأنه لم يقرأ حرفًا مما قيل.. الموضوع ليس موضوع تقوى إذن وإنما هو سيفعل ما يحلو له مادام يعد بالكسب السهل .. هو فقط (مزنوق) في شيخ يقول له إن هذا كله حلال ..

أغلق قميصك الممزق يا صاحبي، فالبورصة ليست لعبة، وبفرض أنها كذلك فمصر ليست بالبلد الذي يمكنك أن تلعبها فيه .. البلد الذي تنام فيه وتصحو لتجد أن كل جنيه في جيبك تحول إلى ثلاثين قرشًا، ويختفي الدولار من المصارف ثم يظهر فجأة ويُفصل الموظفون الذين امتنعوا عن صرفه، ثم يختفي من جديد ويفصل الموظفون الذين صرفوه .. هذا البلد ليس أفضل بلد تمارس فيه ألعاب البورصة، فلا تحاول إقناعي بأنك ضحية من فضلك.