قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, August 15, 2010

مصحة الدكتور أنطوان - 3


==================================


قال د. مراد وهو يخرج بنا من هذا القبو الرهيب
ـ"أردت أن أبدأ بالحالات الخطرة لأشد انتباهكما.. لكنكما ستقابلان الكثير من الحالات البسيطة كالعصاب والذهان غير الخطرة.."ـ

قالت نادية
ـ"بدوت لي للحظة كأنك طفل يستمتع بأن يخيف الفتيات بسحلية اصطادها!"ـ


نظر لها في غيظ.. هذه هي الحقيقة فعلاً؛ لكنها لا تُقال.. كل هؤلاء المحترفين لديهم نقطة ضعف صبيانية (فلْترَوْا كم نحن خطرون!).  هذه موهبة نادية الدائمة في عدم إشعار الآخرين بالراحة


قال في برود وهو يمشي وسط الممرات
ـ"فلنترك السحالي جانباً.. غرفتاكما في نهاية الممر.. هناك جهاز هاتف.. أي شيء تريدان يمكنكما طلب رقم (5).. ليس هذا فندقاً لكن د. أنطوان أعطى تعليمات صريحة بأن تشعرا بالراحة.. يمكن لكل منكما طلب غرفة الآخر عن طريق رقمي 10 و 11"ـ

ونظر في ساعته
ـ"الإفطار في السابعة صباحاً حتى التاسعة.. الغداء في الثانية بعد الظهر حتى الرابعة. العشاء التاسعة مساء.."ـ

نظرت في ساعتي.. لقد فات وقت الغداء إذن.. تباً لكم!.. فقال باسماً
ـ"استبقينا لكما وجبتين"ـ

كان لغرفتي ذات الطابع العملي الكئيب المميز لاستراحات الشركات.. كل شيء موجود.. كل شيء نظيف.. كل شيء قبيح خال من الروح. هناك مرآة كبيرة في ركن المكان، وعلى طريقة الفنادق كان هناك مصحف وإنجيل جوار الفراش

اتجهت للمرآة وبدأت أفكّ ربطة عنقي.. لا أعرف سبب هذا الشعور الغريب بأنني مراقب.. لكن أين؟.. المكان لا يسمح بوجود كاميرات مراقبة ولا توجد ثقوب مفاتيح

مددت إصبعي إلى المرآة ولمست الزجاج؛ فلمس إصبع رجل المرآة طرف إصبعي، كأنها لوحة مايكل أنجلو الشهيرة أو ملصق فيلم "إي تي".. لا مسافات بين الإصبعين. شكراً لقصص الجاسوسية التي قرأتها في صباي.. هكذا اتجهت للهاتف وطلبت رقم 10

جاء صوت نادية المتشكك المتذمر؛ فقلت لها
ـ"هل تشعرين بأنك مراقبة؟"ـ

قالت في ضيق
ـ"كنت أتوقع أن تتأخر إصابتك بالبارانويا بعض الوقت.. كل الناس يعتقدون أنهم شفافون ويشعرون بأنهم مراقبون"ـ

ـ"أنا لا أمزح.. المرآة في غرفتي واضح أنها ذات وجهين.. بمعنى آخر هناك من يقف خلفها ويراقبني كأنه ينظر عبر لوح زجاج.."ـ

ـ"وهذا يعني؟"ـ

ـ"يعني أن هناك من يراقبنا.. ويعني أن عليك ألا تخلعي ثيابك أمام المرآة، إذا لم ترحبي بوجود طاقم المستشفى كله خلف المرآة، يقزقز اللب ويشرب الكولا ويتسلى برؤيتك عارية.."ـ

ـ"تأخرت كثيراً.. لقد بدّلت ثيابي فعلاً؛ لكني سأضع غطاء على كل المرايا، وآمل ألا يؤدي هذا إلى أن نقضي باقي عمرنا هنا بتهمة البارانويا.. بالمناسبة هذا الكلام لا يقال عبر الهاتف.."ـ

ـ"بل أريد أن يعرفوا أننا لسنا حمقى"ـ

وضعت السماعة ورحت أفكر في معنى هذا.. لا نملك أسراراً خطرة ولسنا مهمين؛ فلماذا يهتم أحد بمراقبتنا؟

بعد الغداء المتأخر جاءت ممرضة أخرى، وطلبت منا أن نصاحبها في جولة أخرى بالمستشفى.. إن دكتور "منصور" ينتظرنا


د. "منصور" كان رجلاً ضخم الجثة كباب المخزن، له لحية قصيرة مدببة كلحية التيس.. اصطحَبَنا عبر حديقة أنيقة مهندمة، إلى بناية صغيرة ذات بوابة حديدية يحتشد خلفها ثلاثة من رجال الأمن الذين تبدو عليهم الخطورة.. قال لنا وهو يصعد الدرج
ـ"لدينا طرق قد تعتبرها غريبة أو ثورية أكثر من اللازم؛ لكنها برهنت على نجاح شديد.."ـ

القاعة الأولى كانت مغلقة بباب حديدي؛ فدقّ الجرس مرتين وسرعان ما وجدنا أننا في غرفة كبيرة تشبه عنابر المستشفى.. على الفراش كانت امرأة لا أعرفها، كانت مقيّدة في وضع مصلوب؛ بحيث صارت معدومة الحيلة تماماً.. جوارها كانت ممرضة تفرغ محقناً كبيراً في وريد الساعد

قال "منصور" وهو يبتسم
ـ"هذه هي جرثومة الملاريا!"ـ

نظرت له نادية في ذهول كأنما هي تستوثق من أنها لم تخطئ السماع، ثم سألته من جديد
ـ"ملاريا؟؟؟؟؟"ـ

ـ"نصيب المريض بالحمى.. هذه من طرق العلاج بالصدمة القديمة جداً.. لاحظ الأقدمون أن المريض يتحسن بشكل ملحوظ بعد العدوى وارتفاع الحرارة، وبعد ذلك نعالجه من الملاريا.."ـ

الغرفة الثانية كانت ألعن.. هذه المرة هناك مريض مربوط بالكامل إلى سقالة مهيئة؛ بحيث تنزلق لتغمره في الماء لبضع دقائق.. ثم ترتفع بعد ما تطول الفترة وتتمزق أعصابنا.. يشهق المريض في جشع ليعب الهواء بسرعة، قبل أن تنحدر السقالة من جديد

هذا لا يشبه المستشفى جداً.. هذا أقرب إلى معتقل السجن الحربي، أو غرفة في معتقل "داخاو" النازي.. المشكلة هنا أن المريض لن ينقذ نفسه بالاعتراف.. فبأي شيء يعترف؟

قال الطبيب باسماً وهو يراقب وجهينا
ـ"مندهشان من أساليبنا.. أليس كذلك؟"ـ

الغرفة الثالثة كان يتوسطها قفص عملاق من السلك الضيق الشبيه بالشبكة.. في الداخل يقف المريض عارياً تقريباً، ثم ينفتح صندوق ما؛ فتهجم عليه أسراب من البعوض والذباب.. العدد مهول لدرجة أنها غطته بالكامل، وهو يصرخ ويحاول حماية وجهه وعينيه

قالت نادية في برود ساخر
ـ"العلاج بالحشرات.. لا بد أنه علاج قديم محترم"ـ

قال الطبيب
ـ"لا.. هذا من اختراعنا.. إن صدمة أن يجد المرء نفسه مغطى بالحشرات تفوق التحمل.. هذه الصدمة كفيلة بزعزعة كل توازنه العقلي.. عندما يكون العقل مزعزعاً فمن الوارد أن يعود لطبيعته"ـ

ـ"مثلما تهزّ الساعة المعطلة لتعمل.. كان "فرانكنشتاين" يتبنى هذه النظرية"ـ

لم يردّ الطبيب بل صاح في الممرض الشبيه بفتوات السلخانة
ـ"يكفي هذا يا "سملاوي".. هلم"ـ

ففتح "السملاوي" ثغرة صغيرة في القفص، ثم صوب خرطوماً كاسحاً من الماء يشبه خراطيم المطافئ، ليكتسح كل ما غطى المريض من حشرات.. دعني أؤكد لك أن اندفاع الماء كان نوعاً آخر من التعذيب

قالت نادية هامسة لي في ضيق
ـ"لا أعرف رأيك.. لكن رأيي أن هذه المصحّة ليست على ما يرام"ـ

.......

يتبع