قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, June 21, 2010

خالدنا و خالدهم

بص و طل - 21 يونيو 2010


كلما قرأت تفاصيل هذا الذي وقع في سيدي جابر، شعرت بأن هناك شابّين يحمل كلاهما اسم خالد محمد سعيد، تواجدا في الإسكندرية في تلك الساعة من يوم 8 يونيو عام 2010 وتُوفّيا إلى رحمة الله في نفس اللحظة. هناك "خالدهم" خالد تقارير الحكومة وكتّاب الصحف القومية، و"خالدنا" نحن المصريين الذين يملأون الشوارع ويتمنون أن يبتعدوا عن الحكومة وتبتعد الحكومة عنهم


الحقيقة تضيع بسهولة، ومن السهل على أي ضوضاء أن تُخفي حقيقة ما يحدث.. جربنا هذا من قبل في مواقف عديدة؛ لكننا تعوّدنا كذلك على أن الحكومة تكذب كثيراً جداً.. المفكّر العالمي الوحيد الذي تؤمن بأفكاره هو "جوبلز"، ولقد تعلّم المواطن المصري منذ زمن أن يقرأ الصحف القومية مع بعض التغييرات: (لا صحة لما نشر عن زيادة في الضرائب)؛ معناها: (ما نُشر عن زيادة الضرائب صحيح تماماً). أو (جميع المصريين في سيراليون بخير)؛ معناها (المصريون في سيراليون حالهم زي الطين).. هكذا تصير الصحف القومية مفيدة جداً وبالغة الصدق.. هكذا يمكننا أن نعرف رواية مَن الأصدق بصدد "خالد"، دعك من أن الفتى "خالد" كان له أصدقاء يعرفونه جيداً، وهم شهود مهمّون

ما هو الفارق بين "خالدنا" و"خالدهم"؟
ـ"خالدنا" شاب في الثامنة والعشرين من العمر، له وجه وسيم وابتسامة هادئة مهذّبة توحي بالثقة، وعينين مليئتين بالأحلام، هل كان يحب فتاة رقيقة مثله؟.. هل كانت هي تحبه؟.. هل كان يتهيأ لطلب يدها؟.. شاب سكندري ملأته المدينة الساحرة بحب الجمال، يهوى تربية القطط، ولديه صورة وهو يحمل قطة تحت إبطه.. اعتدت أن أثق بمن يحب القطط وأصدّقه؛ لكن هذا موضوع آخر.. شاب يعزف الموسيقى على جهاز الكمبيوتر الخاص به، ويصطاد السمك، ولديه شركة استيراد وتصدير صغيرة (على قده).. يمكن أن يكون ابن أو أخ أي واحد منا

عرفت كذلك أنه عاش لفترة في أمريكا، وله أخ يحمل الجنسية الأمريكية، وهو يهوى الإنترنت.. لا يعرف أن الإنترنت هواية قاتلة بالمعنى الحرفي للكلمة؛ لكنه سيعرف هذا حالاً

ـ"خالدهم" -بالصدفة- في نفس السن.. هو شاب عاطل وصايع فعلاً، إنه الرجل الذي لا تتمنى أبداً أن تُقابله في زقاق مظلم، يُتاجر في المخدرات وفارّ من الخدمة العسكرية، ويحمل مطواة قرن غزال، سبق له التحرّش بفتيات، ومطلوب في قضايا سطو مسلّح

هل يمكن خلط الحقائق لهذا الحد؟.. لماذا لم نسمع هذا الكلام إلا من الداخلية؛ بينما يُصرّ الجيران والأصدقاء على أنه مجرد شاب مهذب لطيف؟.. يبدو أن قدرته على الخداع كانت فائقة إذن

ـ"خالدنا" كان جالساً في مقهى الإنترنت في "كليوباترا"، عندما اقتحم المكان "بسطويسي".. آسف.. اقتحمه المخبران محمود الفلاح وعوض، وراحا يفتّشان الموجودين في وقاحة، ما فعله خالد هو أن أبدى امتعاضه وتساءل عما فعله.. كان هذا إعلاناً بالكفر بالنسبة للمخبريْن اللذيْن قررا أن الوقت قد حان للتسلية وإخراج طاقة السادية لديهما.. طوارئ يا عسل كل سنة وأنت طيب.. هكذا انهالا ضرباً ولكماً على الفتى؛ حتى سقط على الأرض.. لكن أحدهما أنهضه وأمسك برأسه وراح يضربه على الكاونتر مراراً

ثم إن المخبريْن حاميي القانون اقتادا "خالدنا" إلى عقار جوار المقهى وتولّيا ضربه بالركلات في البطن والصدر حتى فقد وعيه؛ فحاول أحدهما إفاقته بطريقة علمية هي ضرب رأسه في جدران العقار والسلالم الرخامية. ثم حملاه داخل سيارة الشرطة إلى قسم سيدي جابر وسط ذهول الحاضرين‏,‏ وبعد عشر دقائق عادا به بدعوى طلب سيارة إسعاف لنقله إلى المستشفى؛ لكنه كان قد فارق الحياة

يقول الشهود: إن مباحث سيدي جابر انتشرت بالمنطقة ليس بحثاً عن الجناة؛ بل بحثاً عن محمول مزوّد بكاميرا قيل إنه التقط صوراً للجريمة.. يقولون كذلك إن مباحث سيدي جابر مارست كل أنواع الضغط لإثناء شهود الواقعة عن الإدلاء بشهادتهم على تفاصيل ما حدث

ـ"خالدهم" تصرّف بطريقة مختلفة تماماً.. شخص بهذه المواصفات لا بد أنه كان يحمل بانجو، وعندما رأى دورية يقودها ضابط مباحث سيدي جابر ورجلا شرطة أصابه الهلع؛ فابتلع ما معه من بانجو.. أصيب بحالة من الإعياء وتوفي قبل بلوغ المستشفى. وقال المسعف في أقواله أمام النيابة إنه استخرج لفافة من القصبة الهوائية للمتوفى والتي أصابته بالاختناق، واستبعدت التحقيقات وجود شبهة تعذيب بعد مناظرة الجثة

كلنا نعرف كيف يُستخدم البانجو لتلفيق القضايا، وقديماً قال ضابط شرطة - بعيداً عن النشر: أي رئيس مباحث لا يحتفظ في درج مكتبه بقطعة حشيش ومطواة قرن غزال وطبنجة لزوم تلفيق القضايا، هو رجل لا يعرف شغله

لكن لِنَدَع الصور تتكلم.. الصورة التي نشرت لجثّة "خالد" الرقيق عاشق القطط تجعلك تتساءل: هل قبضوا على سائق القطار الذي داس عليه؟.. لقد تحطمت الأسنان والفك وتشوّه الوجه تماماً

ـ"خالدنا" صار هكذا بعد تعامل بسيط مع الداخلية التي توحّشت وصار من المستحيل إعادتها للقُمقم

ـ"خالدهم" صار هكذا لعدة تفسيرات قدّمتها الداخلية: التفسير الأول هو ابتلاع كيس البانجو؛ وحتى لو كان البانجو مغشوشاً؛ فليس من آثاره الجانبية تحطيم عظام الوجه.. التفسير الثاني هو التشريح؛ لكننا كنا طلاب طب ورأينا الجثث وكيف يصير حالها في نهاية العام الدراسي بعد ما يمزقها مئات الطلاب شديدو الخرق؛ لكننا لم نرَ هذا المشهد.. التفسير الثالث هو ارتطامه بباب عربة الإسعاف.. كثرة التفسيرات تدلّ على أنه لا تفسير لديهم

ـ"خالدنا" -كما قال صديقه الصحفي "بهاء الطويل" في مقال له- لم يتعاطَ المخدرات لأنه في الأصل غير مدخّن، وأدى الخدمة العسكرية مثل أي شاب مصري

ـ"خالدهم" مجرد مجرم تلقى عقابه.. وكما وصفته الصحف القومية بلطف "شهيد البانجو".. ظريف جداً.. هؤلاء القوم مجموعة من الحمقى، ويجب أن يعاقبهم النظام بقسوة؛ لأنهم يؤذونه بلا توقّف

المشاعر ملتهبة ولو لمستها نسمة لالتهبت؛ لكن الأخ -كاتب المقال- يسخر من المتوفى ويهين أسرته وأصدقاءه.. بل يُهين مفهوم الشهادة الديني أصلاً

ـ"خالدنا" غيّر الكثير فعلاً.. لم تذهب قطرة من دمه هدراً وصار رمزاً.. فوجئت أنه صارت له صفحة على الويكيبديا العربية؛ أي أنه صار من المعلومات العامة التي يجب أن يعرفها المواطن المثقف.. عقب أداء صلاة الغائب عليه بميدان كيلوباترا، تظاهر ما يقرب من 3 آلاف شخص من أبناء الإسكندرية والقوى السياسية المختلفة من أعضاء حركة "الجمعية الوطنية للتغيير"، وحركة "الاشتراكيين الثوريين"، و"6 أبريل"، وحركة "كفاية"ـ

ـ"خالدنا" قد أظهر كَمْ أن الأمور بلغت حافّة الهاوية ولم يعد أحد يتحمل أكثر

ـ"خالدنا" كان يعرف الكثير لو أخذنا بما قالته السيدة ليلى مرزوق أمه، قالت إن ابنها حصل على فيديو يتضمن لقطات بالصوت والصورة لأحد ضباط قسم سيدي جابر والمخبرين وهم يقومون بالإتجار في الحشيش؛ مشيرة إلى أن المجني عليه قام بنشر الفيديو بين أصدقائه؛ وذلك منذ حوالي شهر.. "خالد" قال إنه سوف ينشر هذا الفيديو في مدونة

حتى لو كان "خالدهم" له وجود وكان يتاجر بالبانجو في اللحظات التي لا يغتصب فيها البنات؛ فبأي حق يتم إعدامه في قلب الإسكندرية من دون محاكمة؟ وبأي حق يُخرج بلطجيان ساديتهما عليه لمجرد أنه لا يستطيع الردّ؟ يبدو أن أهل "كترمايا" اللبنانية كانوا شديدي الرقة إذن

ـ"خالدنا" هو شهيد الطوارئ
ـ"خالدهم" هو شهيد البانجو؛ لكن العبقري الذي اصطكّ هذه العبارة سوف يدفع ثمنها يوماً ما، ولسوف يتمنى لو قُطعت يده قبل أن يكتبها إرضاء لفلان باشا.. هل أنت متأكد يا سيدي من أن طائرة الفرار المتّجهة إلى سويسرا سوف تُقلع في وقتها حقاً؟