قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, June 15, 2010

ذكريات إضرابية


يوم الأربعاء الماضي تحولت مدينتي طنطا - خاصة في الشوارع المحيطة بالمحكمة - إلي ثكنة عسكرية، وذلك بسبب تلك الإضرابات التي تلت مشادة المحاميين ووكيل النيابة. عرفت أن المحامين في الغربية مضربون عن العمل إلي أجل غير مسمي، وأن العشرات منهم اعتصموا داخل مبني المحكمة الابتدائية بطنطا ، في ذلك اليوم بدا كأن كل شخص في طنطا حضر المشادة ورأى ما حدث بعينيه، وسمعت القصة من أكثر من سائق تاكسي حتي بدا لي أن المحكمة كانت تعج بسائقي التاكسي في تلك اللحظات بالذات. ومع قراءة الخبر مكتوبًا بألف طريقة في الصحف، ومع سماع القصة بألف شكل مختلف، أدركت أن معرفة ما حدث بالضبط شبه مستحيلة. المقياس الوحيد هنا هو من الطرف الذي وجه الضربة الأولى

قصة مؤسفة هي بالتأكيد، فالمصري يحمل نظرة إكبار لا شك فيها لرجال القضاء زرعت فيه منذ كنا نسمع قصص جداتنا عن الخصمين اللذين اختلفا «وذهبا لقاضي القضاة». يكره المرء أن يجد رجل القضاء خصمًا في مشادة أو يوجِه أو توجَه له ضربات

لقد استشطنا غضبًا عندما عرفنا أن الشرطة ضربت قضاة أثناء الانتخابات، لكن هذه الضربات بالطبع كانت أوسمة علي صدور القضاة الشرفاء الذين أصروا علي أداء واجبهم، أما القصة الأخيرة ففيها بالتأكيد ما لا يريح .. لا شك أن المحاميين شعرا بالإهانة فعلاً لدرجة التضحية بمستقبلهما، فالمرء لا يقتحم مكتب وكيل نيابة ليوجه له ولحراسه الضربات لمجرد أنه عصبي أو عدواني

ملابسات القصة ذكرتني بقصة صدام أخرى مماثلة جعلت أطباء الغربية يضربون جميعًا عن العمل، وكاد الوباء يمتد إلي باقي المحافظات. في العام 1990 تقريبًا كنا في شهر رمضان. زميلنا الطبيب المقيم في قسم الجراحة رجل محترم بلا شك، ومخلص في مهنته ويعني بالمرضى، إلا أنه حار الدماء علي شيء من الاندفاع

كان استقبال الحالات في مستشفى طنطا الجامعي يتم فيما يدعي بالاستقبال العام، أما الجراحات فتجري في قسم جراحة الحوادث، والمسافة بين المكانين تتطلب عشر دقائق مشيًا تقريبًا. كانت هناك مريضة أصيبت بطلق ناري وحالتها الآن مستقرة، جاء وكيل نيابة شاب ليأخذ أقوالها في الاستقبال العام ثم طلب استدعاء الطبيب المقيم. كان زميلنا هذا مشغولاً في غرفة العمليات في هذا الوقت بالذات، منهمكًا في جراحة صعبة. انتظر وكيل النيابة جوار فراش المريضة بعض الوقت ثم أعاد استدعاء الطبيب .. بالطبع لم يأت .. طال الانتظار.. أرسل له للمرة الثالثة بلهجة حادة بعض الشيء، فقد بدأ يشعر بالحرج أمام المريضة وأقاربها

في النهاية فرغ زميلنا من الجراحة وخاط الجرح وتخلص من تعقيمه، هكذا ذهب إلي الاستقبال العام، وانفجر في وكيل النيابة غضبًا .. لا أعرف ماذا قال ولا ماذا فعل بالتفصيل، لكن وكيل النيابة لم يستطع أن يرد أمام هذا الشلال من العصبية .. لقد كان لدى الطبيب ما يكفيه من مشاكل ولم يكن علي أدنى استعداد لتحمل قشة جديدة

كل ما قام به وكيل النيابة هو أن جمع أوراقه في صمت وانصرف، ولم يمر وقت طويل حتي كان زميلنا الطبيب يحمل حملاً إلي النيابة. زملاؤنا الذين زاروه هناك قالوا إنه يجلس علي مقعد في غرفة ضيقة، ومن حين لآخر يطل عليه أحدهم متهكمًا ثم ينصرف .. لقد أمضى ليلة كاملة هناك، وعند ظهر اليوم التالي كان الغليان قد بلغ ذروته

الحكايات تنتقل من فم لفم .. كنا صائمين مرهقين من الحر والظمأ والغيظ .. وفي النهاية لا أعرف كيف بدأ الأمر .. لقد وقفنا جميعًا صامتين هناك في ساحة المستشفي عالمين أننا لن نتحرك ولن نعمل إلي أن يعود صديقنا. هذه من المواقف التي يتحرك فيها الوجدان الجمعي أو الإشعاع السايكوفيزيائي فلا يمكن أن تتهم واحدًا بأنه أشعل الشرارة .. لقد اشتعلت خمسون شعلة صغيرة في وقت واحد، وفي النهاية صار هناك بحر من المعاطف البيضاء يتجمع في حديقة المستشفى. صديقنا يهان .. صديقنا يهان .. هذه كانت الفكرة الوحيدة المسيطرة. ومن مكان ما ظهر قائد الحرس يدعونا للتفرق فلا يرد أحد .. في النهاية صاح في غضب
«علي الأقل ابعدوا عن البوابة .. مش عاوز حد في الشارع يشوف المنظر ده»

ظهرت بيننا وجوه تتابع كل شيء وتلتقط كل محادثة. وجوه زملاء لنا لم نعرف أنهم مهتمون بهذه الأمور قط.. كان من السهل تخمين سبب اهتمامهم .. كما أن هناك البعض ذهبوا لأقسامهم وبدأوا يملأون تذاكر المرضي بتوقيعاتهم مع تحديد الساعة «والوقت ليس وقت مرور علي العنابر». وسرعان ما ظهرت السيارة البيجو البيضاء إياها لينزل منها ضابط أمن الدولة، فيتجه لمكتب قائد الحرس ليضع ساقًا علي ساق، ويطلب مقابلة منظمي هذا الإضراب.. كان هذا الطبيب ذا شعبية عظيمة، وله أصدقاء لا يبالون بشيء فعلاً وعلي أتم استعداد لأن يسجنوا أو يموتوا لو لم يعد لهم. وقد أدرك الضابط بعينه الخبيرة أن الموقف جد خطير .. بينما نحن معه في المكتب جاء عامل يبلغه أن الإضراب امتد لمستشفي المنشاوي العام - أهم مستشفي تابع لوزارة الصحة في طنطا - وبعد قليل جاء من يقول إن الجذوة بلغت مستشفي قطور العام. هددنا ضابط أمن الدولة بأن وزير الداخلية سوف يصدر أمرًا باعتقال صديقنا لو لم نتفرق «كأنه هو منظم الإضراب»ـ

الجانب المظلم القاسي من الإضراب عرفته وأنا أقف بالخارج..كان المرضي ينصرفون من علي الباب وقد عرفوا أن الأطباء مضربون، وهنا ظهر هذا الأب الذي يحمل طفلة في التاسعة في حالة مرضية سيئة جدًا. راح يدور بها بين الأطباء الواقفين: «يا دكاتره .. العيلة دي ذنبها إيه ؟...أبوس أيديكم»ـ

لكن الأطباء الواقفين ظلوا صامتين .. فقط تحاشوا نظراته .. زميلنا يهان .. فليذهب الجميع للجحيم.. الغضب ولد في النفوس قسوة لا شك فيها. الرجل يدور بالطفلة متوسلاً كأنه الملك لير يحمل جثة كورديليا. كنت لم أمارس طب الأطفال منذ أربعة أعوام وقد نسيته تمامًا، وإلا لتخليت عن كل شيء وعالجت الطفلة. نظرت لزملائي بحثًا عن طبيب أطفال .. لا يوجد .. هل منكم من يفهم في طب الأطفال ؟.. لا تعليق. الحقيقة أن طغيان الجماعة كان ساحقًا وقتها، بحيث لو وجد طبيب أطفال وتولى أمر الطفلة لاتهموه بالخيانة وخرق الصف. لكن هل تموت الطفلة ؟.. هذه كانت من أقسى اللحظات في حياتي .. هناك ظلم لكنك تصلحه بظلم أكبر.. وما الحل ؟.. الحل بالنسبة لهذه المؤسسات الحيوية أن تظل نسبة ثابتة من العاملين تمارس عملها في أي إضراب.. إن الإضراب سلاح خطر فعلاً ويجب استعماله بعقلانية. في النهاية نصح أحد العمال الرجل بأن يأخذ ابنته لمستوصف قريب ولا أعرف مصيرها بعد ذلك

دام الإضراب حتي اليوم التالي، ولابد أن الكثير من المياه جرى تحت الجسور، لأن الوضع كان خطيرًا فعلاً بعدما امتد الإضراب إلي المحلة الكبرى .. وعندما خرج صاحبنا أخيرًا استقبل استقبال الأبطال، وهو اليوم أستاذ جراحة معروف. لم تكتب أي جريدة عن هذا الحدث سوى جريدة «الأهالي» علي ما أذكر

كانت هذه قصة مؤسفة فعلاً، خاصة أن الطرفين كانا يحاولان القيام بعملهما ولم يتصرف أحدهما بصلف، ولم يستعمل أي طرف يديه .. لا شك أن الأوضاع تغيرت كثيرًا في هذا العصر السعيد. دعك من الخلل الذي ساد قيمة القانون ذاتها. كم مرة رأيت تلك السيارة تقف في مكان خطأ أو تسير عكس الاتجاه وعليها بادج القضاء؟. حتي صارت تلك قاعدة: أي سيارة تخالف القانون بعنف هي في تسعين بالمائة من الحالات سيارة ضابط أو وكيل نيابة، وبالطبع لا يجسر رجل الشرطة البائس إلا علي التظاهر بأنه لم ير شيئًا أو يضرب السلام لراكب السيارة. وفي النهاية تظل الداخلية هي الأقوى والطرف الرابح دائمًا