قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, March 16, 2010

عن هاييتي وهيلاري وهيلين


في جلسة مع مجموعة من الشباب الطنطاوي الواعد، عرض أحدهم الكليب الخاص بأغنية (نحن العالم) التي احتشد فيها عدد من الفنانين الغربيين لجمع التبرعات من أجل هاييتي، تذكرت علي الفور أني كنت في الكلية عندما قدمت هذه الأغنية للمرة الأولي، وبالطبع تغيرت وجوه الفنانين، دعك من أن كاتب الأغنية نفسه مايكل جاكسون قد مات. بالطبع هي أغنية رائعة، وتداخل أصوات المطربين مذهل، كما تمت إضافة عدد لا بأس به من سمكرية السيارات ليضيفوا مقاطع راب تناسب العصر. كل هذا جميل لكنه نفاق من طراز عال، وسأشرح الأسباب حالاً

في الفترة نفسها تقريبًا رأيت في التليفزيون الجنود الإسرائيليين يضربون صحفيًا، ثم يضربون امرأة فلسطينية ضربًا مبرحًا، كما رأيت أحدهم ينهال صفعًا علي وجه صبي. ثم ظهر نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن علي الشاشة وكانت مهمته توجيه اللوم لإسرائيل بصدد بناء مستوطنات جديدة، فكانت كلمته حازمة جدًا: «لو أني يهودي لكنتُ صهيونيًا». لم يكن الرجل يخطب بل كان يغازل حتي توقعت أن يبكي تأثرًا، وشعرت بالخجل من نفسي لأنني أسترق السمع إلي مناجاة عاشقين. يحكي عن ماما جولدا مائير الحنون التي احتضنته وأخبرته أن السلاح السري الوحيد لدى إسرائيل هو أن أهلها ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه!. باختصار لم يختلف خطابه عن الخطاب الرسمي الأمريكي الذي اعتدناه، ولكن الجديد أن يكون هذا الرجل بالذات مفوضًا بالتحدث باسمنا واسترداد حقوقنا. الولايات المتحدة وإسرائيل شيء واحد ويجب التعامل علي هذا الأساس الذي نصر على نسيانه. اعتبر أن إسرائيل هي تكساس التي تم زرعها في قلب حدودنا وسوف يبدو كل شيء واضحًا. في طفولتي مزق أحد الصبية في المدرسة كتابي، فذهبت أشكوه للمعلمة التي تصادف أنها كانت أمه.. كنت أعرف أن تصرفي ساذج، لكني توقعت أن تكون عادلة وأن يضعها هذا الموقف عند مستوى المسئولية. ربما تقسو عليه أكثر كي تثبت أنها عادلة؛ لكني كنت أحمق فعلاً؛ لأن المرأة اكتفت بأن قالت له
«عيب يا مشمش!»
وعدت لمقعدي لأتلقي سخريته. وفي النهاية عرفت أن العمل الوحيد الممكن هو أن أمزق كتابه، وقد فعلت هذا وتلقيت عقابًا لا بأس به (26 ضربة بطرف المسطرة الحاد)، لكني كنت مسرورًا. أن تنتظر أن يعيد لك أوباما حقك يشبه كثيرًا ما فعلته أنا في طفولتي

تذكرت هذا الفيديو كليب الخاص بهاييتي، الذي يمد يده محاولاً اعتصار الدمع من عينك، والمال من جيبك، فشعرت بالقسوة تغزو نفسي، وبأنني فعلاً لا أبالي كثيرًا. لقد فقدت الكثير من إنسانيتي بلا شك، لكن كيف تتحمل أن ترى هذه الفظائع اليومية في فلسطين، ثم تتعاطف مع الإخوة الذين احتشدوا ليغنوا من أجل هاييتي؟.. الكيل بمكيالين يجعلك قاسيًا بلا شك. ولعل هذا مبرر لا بأس به ضمن المبررات التي تجعل العرب لا يبالون ألبتة بما يحدث في العالم من كوارث. أنانية لكنها ولدت نتيجة عقود كاملة من الكيل بمكيالين

الإعلام الغربي يجيد تسليط الضوء علي المكان الذي يريده في الوقت الذي يريده، وأقتبس هنا كلمات د. جلال أمين التي كتبها عن قناة «سي. إن. إن» عام 1991: «شاهدت قناة
CNN
الأمريكية، فوجدت فيها ما يجسم ما أكرهه في وسائل الإعلام الحديثة: الكفاءة منقطعة النظير في الكذب، والإلحاح المستمر علي الناس لحملهم علي تصديق ما لا يجب أن يصدق، والبرود وتضخيم أتفه الأخبار كأنها بالغة الأهمية، وتجاهل الأخبار المهمة فعلاً، ووجوه المذيعين تؤكد شعوري بأني لست أمام كائنات بشرية، بل هي وجوه من شمع تتحرك شفاهها طبقاً لنظام مبرمج سلفاً، ويستهدف لا الإعلام بل غسيل المخ أو بالأحرى تلويثه... لقد تعذب صفوة الناس الذين يملكون القدرة علي مشاهدة
CNN
وفهم لغتها الإنجليزية، بينما لم يشعر البسطاء بشيء، وهو يماثل نبوءة (أورويل) حين قال: إن عامة الناس (البروليتاريا) هم وحدهم الذين يحتفظون بقواهم العقلية بسبب عجزهم عن الفهم.. لقد بلعوا كل شيء ولم يلحقهم الضرر من ذلك.. لأن ما دخل «أمعدتهم» خرج منها دون أن يترك أثراً، وكأنه حبة ذرة تمر بجسد عصفور وتغادره دون أن يهضمها»ـ

أما عن أوباما فهو لم يخيب ظني.. مجرد ترس في آلة السياسة الأمريكية، والفارق الوحيد بينه وبين بوش أنه أكثر جاذبية. كما أن هيلاري كلينتون أكثر جمالاً من كونداليزا رايس.. فقط

لكن الصورة ليست مظلمة تمامًا.. لقد قدمت قناة الجزيرة هذا الأسبوع فيلمًا وثائقيًا عن الصحفية الرائعة (هيلين توماس)، وهي من الوجوه المشرقة للإعلام الأمريكي الحقيقي. أعرفها جيدًا لكني لم أعرف قط أنها عجوز لهذه الدرجة (هي من مواليد 1920)، ولم أعرف أنها من أصل لبناني، كما لم أعرف أنها بقدوم أوباما احتفلت بعاشر رئيس أمريكي تزعجه وتحاصره بأسئلتها. إنها عجوز تمامًا تذكرك بالمومياء، وبالتالي لم يجد خصومها ما يهاجمونها به سوى أنها ساحرة شريرة شمطاء جاءت من الشرق. ربما هي شمطاء لكنها رائعة، ولا يوجد رئيس أمريكي لم يرتجف أمامها

سبعة وخمسون عامًا من العمل كمراسلة صحفية ثم كصحفية رأي في مؤسسة هيرست الصحفية، وقد بدأت العمل مع جون كنيدي حيث اشتهرت بلقب (بوذا الجالس) كناية عن حكمتها وصبرها الطويل. كما اشتهرت بالعبارة التي تنهي بها المؤتمر الصحفي (شكرًا لك سيدي الرئيس)، وهي عادة استطاع بوش الابن الأحمق أن يوقفها. سافرت مع نيكسون عام 1972 في رحلته الشهيرة للصين لمقابلة التنين المرعب ماو تسي تونج. ثم سافرت مع كل رئيس أمريكي بعد ذلك

تقول هيلين عن بوش: «إنه أسوأ رئيس جمهورية.. بل هو أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة». وتقول للمتحدث الرسمي للبيت الأبيض: «في كلمة سابقة يا آري قلت إن الرئيس يستنكر سلب الحيوات البريئة. هل ينطبق هذا علي كل الحيوات البريئة في العالم؟.. ولماذا إذن يرغب في إلقاء القنابل علي العراقيين الأبرياء؟». تقول كذلك في عمودها: «أنت لا تنشر الديمقراطية بوساطة فوهة بندقية». وتقول لزملائها الصحفيين: «إنه غرور القوة يقول للصحافة: ماذا تفعلون هنا؟.. هذا هو بيتنا الأبيض.. ماذا تفعلون هنا بحق الجحيم؟. هم لا يفهمون أن مؤتمرات الرئيس الصحفية هي المنبر الوحيد في مجتمعنا الذي يمكن أن تستجوب فيه الرئيس. لو لم يسأله أحد فبوسعه أن يحكمنا بأمر إلهي ويمكنه أن يصير ملكًا. يمكنه أن يصير ديكتاتورًا ولن يعرف أحد ذلك. لا.. يجب أن يتم استجوابه وعليه أن يرد بكامل إرادته، لأن هذه ليست أسئلتنا.. إنها أسئلة الشعب»ـ

واسمع هذا أيضًا: «كل رئيس يكره الصحافة.. كل رئيس يعتقد أن المعلومات التي تأتي للبيت الأبيض هي حقه الخصوصي، بينما وعدنا كل واحد منهم بالشفافية في حملته الانتخابية. وبعضهم يريد أن يغلق كل شيء»ـ

ـ«بوش وبلير لم تعد لهما مصداقية. في وقت كهذا كان يجب أن تسقط الحكومة. لقد رأيت رئيسين مثل جونسون ونيكسون لم يستطيعا أن يكونا مقنعين أو يستمرا في الحكم عندما قرر الناس ألا مصداقية لهما، لكن يبدو أننا نزداد تسامحًا مع الوقت»ـ

هيلين توماس صوت خافت مهم يقول الحقيقة، ولا شك أن الصدام بينها وإدارة أوباما قادم لا محالة، إن هؤلاء القوم منافقون فعلاً قادرون علي تجاهل الشمس الساطعة؛ لأنها تتعارض مع مصالحهم، لهذا أعترف في خجل شديد بأن روحي مثقلة فلا مكان فيها للتعاطف مع هاييتي مهما غنوا لها