قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, March 9, 2010

لماذا هاجر محمد - 6

لماذا هاجر محمد - 4
لماذا هاجر محمد - 5

الدستور - 9 مارس 2010


بما أنني علي اتصال قوي بالشباب بحكم كتاباتي، فقد تلقيت عددًا لا بأس به من الخطابات تعلق علي سلسلة المقالات هذه، فتلومني علي أنني ذوبت فيها قدرًا هائلاً من الإحباط والقنوط والقرف. هناك من يقول لي: «كنا نتوقع منك الأمل.. لو كنت تقول هذا فماذا نقول نحن؟».. إلخ. هناك من يتهمني بأنني لا أقدم حلولاً بل ألطم الخدين بلا توقف. والحقيقة أن الاستسلام للبكاء علي الأطلال مغر جدًا، لكنني لم أكتب سلسلة المقالات هذه لهذا الغرض، ولو كان قد حدث فقد أفلت القلم مني كجواد حرون، لكني كتبتها في محاولة لفهم سبب تحول الديار العامرة إلي أطلال

الحقيقة أن أمام المرء اليوم خيارات محدودة جدًا: إما أن يتوقف عن الكتابة، أو أن يعد القارئ باقتراب اليابسة التي لا يراها هو نفسه. هناك مقطع شعري جميل كتبه بعد وفاة صلاح جاهين صديق شاعر اختطفه الطب من الأدب. الشاعر هو د. (رءوف رشدي) الذي يقول إن عم صلاح كان يهدينا الأمل برغم قنوطه التام «يخبرنا أن البر قريب.. وهو الموقن في داخل داخله أن اليابس ربع.. والماء ثلاثة أرباع!!»ـ

هناك حل آخر أمام الكاتب هو أن يستمر فيما يقوم به، وهو تأمل الكوب نصف الفارغ من كل الزوايا الممكنة. قد يكون تشخيص المرض ووصفه بدقة جزءًا من الحل. لكن تصور أن تقوم مثلاً بتشخيص حالة مريض مصاب بتليف في الكبد واستسقاء، فتجد من ينظر لك في تعال ويقول: أنتم لا تنظرون إلا إلي نصف الكوب الفارغ، ولا ترون إلا السلبيات. ألم تر أن قلبه سليم وعينيه سليمتان؟.. جاتكم البلا

أما الحل الأخير فسوف يكون علي غرار: «طرق النهوض بمصرنا الحبيبة: 1-تطوير التعليم 2-القضاء علي ظاهرة التعصب 3-الديمقراطية...». وهو كلام في كلام لأنك لا تملك آليات تنفيذ ولا سلطة سوى علي قلمك، ونحن نعلم أن هناك العديد من البرامج الممتازة التي صاغتها أفضل عقول الوطن، لكن أحدًا لم يبال بها، ومن جديد نتذكر أن القادرين علي الحلم في وطننا عاجزون عن الفعل، وأن القادرين علي الفعل لا يحلمون إلا بالمزيد من النفوذ والثراء

مثلاً لا أعتبر الكلام عن غياب هيبة القانون نوعًا من البكاء علي الأطلال. إنه وباء ينخر المجتمع بلا توقف، ويقول لك ببساطة: إما أن يكون عندك مراد بيه ذو النفوذ أو سوكة الذي يحمل زجاجة ماء نار وسنجة. منذ عام ونصف العام تقريبًا ذهل الماشون في شارع بطنطا عندما التقت سيارتان في شارع فرعي يصل بين شارعي توت عنخ آمون وبطرس. موقف مألوف ويومي عندما يرفض قائدا السيارتين التراجع. شتائم وإهانات. إلخ.. لكن الأمر تجاوز حدود المعقول عندما أخرج سائق السيارة المخالفة مسدسًا، وصاح وهو يلوح به من النافذة
«لو ما رجعتش حأموتك!»

طلب الناس شرطة النجدة فلم تأت كالعادة، واستمرت المشادات لينتهي الأمر بأن يعلن حامل المسدس عن شخصيته.. إنه وكيل نيابة. وهكذا تحول الأمر إلي مجموعة من الناس يتوسلون للباشا أن يسامح السائق قليل الأدب الذي يصر علي أن الاتجاه اتجاهه، وعلي قدر علمي لم يحدث شيء لحامل المسدس علي الإطلاق. هذه الظاهرة تتضخم يوميًا.. عندما تري سيارة تسير في الاتجاه المعاكس في شارع ضيق، أو تقف في الممنوع في موضع يمر به (الونش) مرارًا، فالاحتمال 90% أن سائق السيارة ضابط أو يعمل بالقضاء. ربما يقبل المصري أن يحدث هذا من ضابط، لكن أن يحدث من وكيل نيابة أو مستشار فهي من علامات الساعة، خاصة مع ما يحمله المصري من احترام عميق للقضاء منذ كنا أطفالاً نسمع في القصص (وراحوا لقاضي القضاة يحكم بينهم) حتي اليوم

هل ذكر هذا بكاء علي الأطلال أم هو صرخة استغاثة؟

عندما تتكلم عن الغاز الذي يباع بأسعار الأوكازيون لإسرائيل، وعن الفقر المتفشي وعن الأسر المتمسكة بالحافة، وفي كل يوم تتخلى أنامل أسرة منها عما تتمسك به فتسقط في هاوية الفقر السحيقة. عندما تتكلم عن الدروس الخصوصية التي تمتص دخل كل البيوت، والتعليم الذي أفرز جيلاً من الشباب يكتب كله (لاكن) و(فتايات) و(زالك). عندما تتكلم عن المرض الذي جعل مصر أعلى دولة في معدلات التهاب الكبد سي. عندما تتكلم عن العبارة والدويقة. عندما تتكلم عن منع القافلة من العبور لغزة. عندما تتكلم عن المشاكل المفتعلة حول النقاب والحجاب، وتتكلم حول المجتمع الذي تفشي فيه التعصب خصوصًا في الطبقات متوسطة التعليم أو الثقافة. هذا كله ليس من قبيل البكاء على الأطلال بل هو المزيد من صرخات الاستغاثة

أقول لهم دعوكم مني ولنسمع ما يقوله خواجه مثل توماس فريدمان الذي طرتم به طربًا منذ أعوام باعتباره نبي العولمة، ثم كرهتموه كالجحيم عندما بدأ يقول كلامًا قليل الأدب كهذا: «منذ أعوام بدأ الرئيس المصري حسني مبارك حملة إصلاح اقتصادي حققت معدل تنمية 7% سنويًا في السنوات الثلاث الأخيرة، لكن التهمت زيادة أسعار الغذاء والوقود كل هذه التنمية كسرب جراد يلتهم وادي النيل. إن مظاهرات الخبز حدث يومي هنا اليوم. أسمع محاورة بين بائع بطاطس في شبرا وزبائنه عمن هو أقل ضميرًا: المدرسون في المدارس الحكومية الذين يتقاضون مالاً من أجل إعطاء دروس بعد اليوم الدراسي لأن كل فصل فيه 80 تلميذًا، أم الأطباء الحكوميون الذين يطلبون مالاً مقابل الرعاية الصحية اللائقة. ليس لأنهم أشرار بل لأنهم مسحوقون. هناك صفقة بين النظام والمصريين تقضي بأن الحكومة ستعطيهم طعامًا رخيصًا ووظائف مقابل أن يبتعدوا عن السياسة. لم يعد الالتزام بالصفقة ممكنًا اليوم فلم يبق منها سوى (ابتعدوا عن السياسة). الأخبار الطيبة هي أن مصريين أكثر يمكنهم اليوم أن يعيشوا كالأمريكيين. الأخبار السيئة هي أن مصريين أكثر لا يمكنهم اليوم أن يعيشوا كالمصريين. وهذا ليس جيدًا.. لا لهم ولا لنا»ـ

أما البريطاني روبرت فيسك فهو كارثة أخرى بصراحته الصادمة ولسانه الطويل: «حقيقة أن مصر لا تستطيع فتح حدودها المستقلة إلا بإذن من واشنطن، تخبرك بكل ما تريد معرفته عن الحكومات التي تدير الشرق الأوسط لنا. إن مصر من دون مساعدات الغرب مفلسة. لكن مشكلة مصر الرئيسة هي الفساد الذي صار مغموسًا في المجتمع المصري حيث لم يعد هناك وجود لفكرة العلاج والتعليم والأمن للناس العاديين. المهمة الوحيدة للشرطة هي حماية النظام. إن مرض مصر شبيه كثيرًا بمرض الفلسطينيين. إن (عنّة) مصر في مواجهة معاناة غزة ترمز لمرضها السياسي»ـ

وسط هذا الضباب يظهر أمل خافت.. فارس فارع القامة حملته السماء لنا.. صحيح أنه فارس أشيب في السبعين، لكنه يحمل الأمل بالتأكيد، وقد قابله المصريون بلهفة حتي إن هاجسًا مقلقًا مر بذهني أن يتكرر معه ما حدث يوم استقبال المعارض الفلبيني (بنينو أكينو) في المطار في الثمانينيات.. أخيرًا ها هو ذا رجل مدني لا يحسب علي المؤسسة العسكرية ولا الإخوان فيثير قلق البعض، وله احترام دولي ساحق وخبرة سياسية عميقة. تعودت لكي أعرف الصواب من الخطأ أن أبحث عن علامات معينة؛ لهذا اعتدت أن أقول لصغار السن: من الذي رقص الإسرائيليون في الشوارع يوم وفاته (كانت عندي صورة نادرة لجولدا مائير وهي توشك علي الموت ضحكًا من فرط السعادة)، ومن الذي بكوا يوم موته؟.. إذا عرفت الإجابة فأنت تعرف الصواب من الخطأ. اليوم أنظر إلي اتجاه نباح الكلاب.. كل الكلاب تنبح في اتجاه هذا الرجل. هذا بالتأكيد يعطيه مصداقية وشرعية عظيمتين. هذا مقياس دقيق إلي حد ما. وفي النهاية هو يعد بما يحتاج له هذا البلد فعلاً: الرئيس الذي يسمح للناس بانتخاب آخر لو لم يرق إلي مستوى تطلعاتهم. سوف يعطي مصر الهزة المطلوبة لإسقاط طبقات الصدأ والغبار والطين الجاف

لكن هل البرادعي يستطيع فعلاً أن يلعب الدور الذي يتوقعه الجميع منه؟.. كيف يمكن أن يفلت عبر ثغرات المصيدة الجهنمية التي لا تسمح لأي واحد بالترشح؟.. هل يمكن فعلاً أن تتم التعديلات الدستورية التي طالب بها؟.. ما أعرفه هو شيء واحد: لو رشح نفسه فلسوف أذهب لانتخابه