قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, February 11, 2010

Invictus: أنا سيد قدرى وقبطان سفينة روحى


وأنا في مخالب الظروف المهلكة
لم أجفل أو أصرخ عاليًا
وتحت هراوات القدر
غطت الدماء رأسي
لكنه لم ينحنِ

لا يهم أن البوابة ضيقة
وأن لفافة الأحكام مفعمة بالعقوبات
فأنا سيد قدري
وأنا قبطان سفينة روحي

هذه أبيات من قصيدة للشاعر البريطاني (هنلي) كتبها عام 1875، وتحمل عنوان إنفكتوس
Invictus
أي (الذي لا يقهر) باللاتينية. هذه الأبيات التي كان نيلسون مانديلا أو (ماديبا) يطالعها في سجنه الطويل لتمنحه الأمل، هي مصدر هذا العنوان الغريب للفيلم الذي قدمه الممثل والمخرج العالمي (كلينت إيستوود) العام الماضي. الشاعر كتب هذه الأبيات وهو في المستشفى ينتظر بتر ساقه، بينما مانديلا كان يطالعها كل ليلة في زنزانته التي قضى فيها 27 عامًا، قبل أن يخرج منها ليحكم جنوب إفريقيا



شاهدت الفيلم مؤخرًا فأعجبت بـ (مورجان فريمان) في دور مانديلا أداء وكتابة. يصعب أن تتخيل أي ممثل آخر يمكن أن يقوم بهذا الدور سوى فريمان، وإن كانت اللهجات غير المقنعة للأفريكانس والسود سببًا رئيسًا في تعكير مزاج المشاهد الغربي، دعك من إلمام المشاهد الغربي غير الأمريكي بقواعد لعبة (الرجبي) التي يتمحور حولها الفيلم مما جعله يكتشف عدة أخطاء. وهو كذلك يحفظ شكل (فرنسوا بينار) كابتن فريق الرجبي لجنوب إفريقيا، فلم يستطع أن يبتلع إسناد دوره لمات ديمون. إن حرص المشاهدين الغربيين على الدقة قد يبلغ درجة زائدة عن الحد، مثل سماع لحن أغنية لم تكن قد كتبت وقت أحداث الفيلم، أو أداء جندي للتحية بطريقة لم تكن مستعملة في حرب معينة. هذا يكفي لإفساد أي فيلم بالنسبة لهم. يقولون مثلاً إن فريق نيوزيلندا في الحقيقة لم يكن بكامل لياقته كما ظهر في الفيلم؛ لأن أفراده كانوا مصابين بتسمم طعام، وكانوا يفرغون معدتهم طيلة المباراة. طبعًا هذه أمور لا أعرف عنها أي شيء، لهذا أخذت من الفيلم ما يكفيني بالضبط

في الفيلم مباريات رجبي عديدة وطويلة، وهذه قد تبدو مشكلة؛ لأننا لا نعرف شيئًا عن هذه الرياضة بالغة العنف، لكنك تكتشف أن بوسعك المتابعة. أو تكتفي بعبارة ذكية وردت في الفيلم: "كرة القدم لعبة السادة يمارسها البلطجية.. الرجبي لعبة بلطجية يمارسها السادة!"ـ

يبدأ الفيلم في الشهور التي تلت تولي مانديلا سدة الحكم بعد مغادرته السجن في جزيرة (روبنس). البيض (الأفريكانس) الذين اعتادوا أن يكونوا الظالمين قلقون جدًا من أن يلعبوا دور المظلومين في الدولة الجديدة. عنصرية مضادة تولد في كل مكان مع رغبة جامحة في معاقبة هؤلاء.. حالة قرف عامة من كل ما هو أبيض. في مشهد افتتاحي مهم يدخل مانديلا ليقابل موظفي الحكومة البيض المتحفزين الذين جمع أكثرهم حاجياته تأهبًا للطرد، فيقول لهم: "من يشعر بأنه غير قادر على العمل في هذه الحكومة الجديدة يمكنه الرحيل، لكن عن نفسي أؤكد أنني سأكون شاكرًا لمن يختار البقاء منكم؛ ليسدي لوطنه خدمة كبرى.. من يعتقد أنه سيدفع ثمن ولاءاته أو آرائه السابقة، عليه أن يعرف أننا نبدأ عهدنا بالصفح والنسيان"ـ

نتابع تفاصيل حياة الرجل الذي لا ينام.. والذي يثير نشاطه ذهول الحراس المحيطين به. إنه لا يتعب فعلاً، وكلما أبدى أحدهم دهشته قال له: لقد استرحت في السجن 27 عامًا.. فلم أعد راغبًا في مزيد من الراحة!. يعتبر نفسه مجرد أب لأسرة تتكون من 42 مليون طفل كما قال مرارًا.. النتيجة هي أنه يغيب عن الوعي مرتين خلال الفيلم بسبب الإرهاق الزائد


ما يبحث عنه مانديلا هو مشروع موحد.. مشروع يجمع بين السود والأفريكانس، ويجعلهم يدركون أنهم أبناء وطن واحد

الفرصة التي سنحت له هي عندما قرر أعضاء الحكومة السود تسريح فريق الرجبي المدعو (سبرينجبوكس).. إن نتائجه سيئة في اللعب ويخسر دائمًا.. دعك من أن أفراده جميعًا بيض باستثناء لاعب واحد. يتم الاقتراع وتأتي الموافقة بالإجماع على التسريح. يسمع مانديلا بالقرار فيهرع ليقتحم المجلس.. تذكّره سكرتيرته بأن عليه أن يخضع لقرار الأغلبية، فيقول لها: "هذه من اللحظات التي تكون فيها الأغلبية على خطأ.. ويكون على القائد أن يخبر الناس بالصواب"ـ

ويقول للمجتمعين: "أنتم اخترتموني قائدًا فدعوني أقود.. نحن نبني بلادنا وبحاجة إلى كل قطعة قرميد أمامنا، حتى لو كانت هذه القطعة قد استخدمت في ضربنا في الماضي. لو أننا عاملنا البيض كما تريدون لعرف العالم أنهم كانوا محقين عندما اعتبرونا متخلفين ووحوشًا.. ولبرهنّا للبيض على أن معهم حقًا في خوفهم منا"ـ

هكذا يقدّم درسه الأول: الجماهير قد لا تكون على حق طيلة الوقت. من الخطأ أن ندع شهوة الانتقام تجرفنا. إن جنوب إفريقيا سوف تستضيف كأس العالم في الرجبي العام القادم 1995، لذا يراهن مانديلا على أن بلاده ستفوز بكأس العالم بهذا الفريق الأبيض الضعيف. يضع كل ثقله لمساندته، ويتعلم الكثير عن هذه اللعبة العنيفة.. بل إنه يرغم الفريق على القيام بجولات في القرى والأحياء الفقيرة ليختلطوا بالفقراء السود ويعلموهم اللعبة ويصلوا إلى قلوبهم

الفيلم يتحدث كثيرًا عن العلاقة بين رئيس الجمهورية وكابتن الفريق (بيينار) -الممثل مات ديمون- الذي يحاول مانديلا أن يبث فيه روح الثقة، ويخبره بقصيدة (إنفكتوس) التي جعلته يتحمل ثلاثة عقود في الزنزانة. ويصل الفيلم ذروته العاطفية عندما يزور (بيينار) الزنزانة الضيقة التي قضى فيها مانديلا أعوام سجنه، والحشية على الأرض التي كان يقضي الساعات جالسًا عليها يقرأ ويتأمل. نسمع القصيدة تتردد طيلة الوقت: "فأنا سيد قدري.. وأنا قبطان سفينة روحي"ـ


تتم المباراة النهائية في جو حماسي.. فريق جنوب إفريقيا أمام فريق نيوزيلندا المرعب المعروف باسم (كله أسود). ونرى طقوس تخويف العدو النيوزيلندية التي هي رقصة حرب من رقصات قبائل الماوري تدعى (الهاكا). تبدأ المباراة الطويلة جدًا والتي توحد فعلاً بين البيض والسود.. لا يوجد أبيض ولا أسود. هناك شعب واحد اسمه شعب جنوب إفريقيا.. وتنتهي المباراة بالفوز لفريق جنوب إفريقيا، فيتعانق الجميع بعيون دامعة. ما زالت مشاكل الفقر والجريمة كثيرة جدًا.. لكنها على الأقل لن تضم الصراعات العرقية بينها

مانديلا شخصية نادرة لا يجود بها الزمن إلا كل مائة عام، لكنك تدرك بوضوح أن الزنزانة كان لها فضل كبير في صياغة هذا الرجل. وينتهي الفيلم وأنت تتذكر كلمات القصيدة بصوت مورجان فريمان الرجولي المؤثر

وأنا في مخالب الظروف المهلكة
لم أجفل أو أصرخ عاليًا
تحت هراوات القدر
غطت الدماء رأسي
لكنه لم ينحنِ