قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, January 13, 2010

دماغى كده - فى أحوالنا الجارية - حسد



أقرأ الآن كتاب "دماغى كده" و هو كتاب رائع يحوى الكثير من مقالات د أحمد حول مواضيع مختلفة... و سوف نتكلم عنه فى سلسلة "قرأت مؤخرا" بعد أن أنهيه إن شاء الله

و لكن فكرت أن أعرض منه بعض المقالات التى لفتت انتباهى بشكل خاص... لثرائها أو روعتها أو أسلوبها  أو طرافتها أو لأنها لامست بعض الأوتار و تناولت بعض القضايا التى تشغلنى بشكل خاص... برغم قدمها

كفانى حديثا و لنستمتع سويا بكلام الرائع د أحمد خالد

شكر خاص للدكتور أحمد لإرساله نسخة رقمية من الكتاب خصيصا

===========================

اليوم أعترف بالحقيقة التي أخفيتها عن الناس منذ الطفولة
أنا أحسد بقوة
أحسد طفلاً  سوف يحقق كل الأشياء التي فشلت أنا في تحقيقها
(الشاعر الروسي إيفتوشنكو)

يجب أن أعترف بهذه الحقيقة .. لقد نجح هؤلاء القوم في تحقيق ما عجزت عنه أنا .. ربما أداري الحقيقة بالكثير من التعالي .. التحذلق .. ترفع الطبقة الوسطى، لكني أدرك يقينًا أنني فشلت في فهم قواعد اللعبة منذ البداية وهي ذي النتيجة واضحة جلية، وهي أن الزمن ليس زمني ولا البلد بلدي

لقد رأيتهم قادمين .. كنت في المدرسة الثانوية بينما السادات يضع المتفجرات تحت الصرح الذي شيده عبد الناصر طيلة عقدين من الزمن، ولم أعلق أهمية كبرى على هذا .. عرفتهم بوجوههم السوقية الشهوانية .. عرفتهم بأصواتهم الجهيرة .. وكما قال الناقد السينمائي الراحل سامي السلاموني: "تعرفهم من كروشهم وفتحة صدر الطرزانات وصفاقة من شبع بعد جوع .. منهم الطبيب والمحامي والمهندس والعامل، لكنهم صاروا طبقة واحدة لها شكل واحد وطموحات واحدة، وربما تستمع لنفس المطرب..".. كتب هذه الكلمات يوم قام أحدهم بنشاط محبب لهم ألا وهو غرس سكين الفاكهة – حتى المقبض - في بطن ابن شقيقة عبد الناصر .. فقط عين السلاموني الحساسة استطاعت التقاط الرمز وراء هذا المشهد

كنت أجلس في غرفتي أطالع الطيب صالح وكافكا وطه حسين، وأعلق رسوم محمود سعيد ورينوار، بينما كان هؤلاء يزحفون كالقمل في كل مكان .. ثمة نشاط بشري غريب هو أن تذهب لبور سعيد وتلف القماش على خصرك وتضع عشرين ساعة حول ساعديك كي تتجنب الجمرك ..نشاط آخر غريب اسمه المتاجرة بالدولار في السوق السوداء ..  هذا النشاط يقومون  به جميعًا لكني - وكل أمثالي - عاجزون عنه .. ربما لأنني أترفع عنه .. ربما لأنني أخشاه .. ربما لأنني لم أفهم قواعد اللعبة بعد .. ربما لأنني (مش وش بهدلة) وبلغة أدق: كان لدي ما أخسره .. هم لم يكن لديهم ما يخسرون .. هذه هي عقد الطبقة الوسطى التي تكبلك إلى الأرض

إنهم يمارسون الاختلاس والرشوة والمحسوبية على نطاق واسع .. ثم أنهم لا يخجلون .. ينشئ السادات حزب مصر فينضمون جميعًا له ويكتب أحدهم على طريقة فكتور هوجو: لو كان أعضاء حزب مصر خمسة فأنا منهم .. ولو كانوا واحدًا فأنا ذلك الواحد
ثم يترك السادات حزب مصر لينشئ الحزب الوطني الديمقراطي عندها - في اليوم ذاته - لا يبقى بين جدران حزب مصر واحد من  هؤلاء .. مشكلتي أنني بطيء التفكير أكثر من اللازم .. أرى هذا الموقف فأقضي عشر سنوات أحاول استيعابه .. بينما هم جميعًا فهموها  (وهي طايرة).. لقد انتهوا من استخراج الدهن من الزلط ودهن الهواء بالدوكو ، بينما أنا ابن الطبقة الوسطى ما زلت أعتقد أن المستقبل لي أنا .. رأسي مقبرة أثرية تضم رفات ناصر وجيفارا ولومومبا حيث أحرق البخور وأتكلم عن بطولة سنموت حنا مع النحاس، وأحفظ  كل حرف قاله كاسترو لناصر عندما التقيا في القاهرة

إنهم يتاجرون في الأراضي .. إنهم يحصلون على تصاريح البناء غير القانونية . إنهم يقوون علاقاتهم بكبار رجال الشرطة .. بينما يستطيع أصغر شرطي مرور أن يجعل الدم يتجمد في عروقي .. ثم يقررون أن يتدينوا فجأة، وتظهر زبيبة صلاة عملاقة لكل منهم، ويلبسون الجلابيب البيض، ويسافرون للعمرة عدة مرات في كل عام وينشئون الشركات التي تبيع حبة البركة والعسل الأبيض، ويديرون المدارس التي تحمل في نهاية اسمها لفظة (الإسلامية).. ويعودون ليتهموا بطيئي الفكر بالتسيب الديني، ولا بأس من غرس سكين في عنق نجيب محفوظ فهذه كما قلت من هواياتهم المحببة، والرجل هو الآخر لم يفهم قواعد اللعبة برغم ذكائه الشديد

وتتأمل سلوكهم فتجد أنهم يمارسون ثلاثية المنافق حرفيًا: يحدثون فيكذبون .. ويعدون فيخلفون .. ويؤتمنون فيخونون..  لكنهم جهيرو الصوت قادرون على الصراخ في أي وقت ليخرسوك

 ثم يكتشفون فجأة أن مصر تضم مسلمين ومسيحيين ويقررون أن هذا خطأ وأن هذا سبب مشاكلنا الاقتصادية التي يعاقبنا بها الله.. دعك من أنهم اكتشفوا فجأة أن هناك صعايدة في الجنوب  وأن هذا شيء ظريف جدًا.. وتبدأ نكات الصعايدة التي يطلقها الحشاشون في ملاهي شارع الهرم لتشق مصر إلى نصفين

إنهم يسودون المقالات في الصحف تبرر كل ما تفعله الحكومة مهما كان خطأ أو جائرًا .. إنهم يهتفون : بالروح بالدم نفديك يا سادات.. ويوم اغتيل السادات لم يكن أحدهم مستعدًا لتبديل جلسته المريحة لينقذه .. وعند المساء كانوا قد نسوا كل شيء عن السادات وراحوا يرتبون أوراقهم للعهد الجديد .. فإذا جرؤت على انتقادهم صرخوا بأعلى صوتهم أنك من (حزب أعداء النجاح)ـ

إنهم لا يملكون ذرة ثقافة لكنهم يعتنقون شعار روكفلر: حسابي في المصرف دليل على أن الله راض عما أفعله .. وهم يؤمنون - كخلاصة الفلسفة البراجماتية الأمريكية - بأن الفقير مسئول عن فقره بشكل ما .. ربما لأنه أغبى من اللازم .. أبطأ من اللازم .. أجبن من اللازم .. والمشكلة أنني بدأت أعتقد هذا

تاجروا في الحشيش والبرشام والبودرة واليوم يزرعون البانجو ويدخنونه لأنهم أدرى الناس بأن (دماغهم متكلفة) وهم حريصون على حفظ التوازن الكيميائي لآلة صنع المال هذه .. إنهم يأخذون القروض ويفرون لكن – وهذا لغز – تظل البلد بلدهم، بينما أنت الباقي فيها والذي سيدفن – مفروسًا - في ترابها تشعر بشكل ما أنك مجرد ضيف عابر

نعم .. في لحظات كفاحي المرهقة كي لا أنزلق إلى طبقة أقل أقول لنفسي إنني فشلت .. كان الزمن يتغير وفشلت أنا في فهم ذلك، بينما هم فهموا منذ البداية .. لقد امتلكت بعض الثقافة السطحية لكني افتقرت تمامًا لذلك النوع الخاص من الذكاء الذي يطلقون عليه (نصاحة) .. ربما لو لم يكن لدي ما أخسره .. ربما لو فهمت أسرع من هذا

لكني لن ألقى باللوم على أحد سواي .. لا توجد بدايات متأخرة للعبة وليس بوسعك أن تتعلمها في سن الأربعين كما أنها لا تُدرس في المدارس .. ولهذا فشلت كل محاولة لي في دهن الهواء بالدوكو أو خرم التعريفة أو اعتصار الدهن من الزلط ... ولهذا أقولها بكل صدق: أنا أحسد هؤلاء القوم .. فقد امتلكوا الأرض وما عليها  ....  وربما يمتلكون المستقبل كذلك وإن كنت أدعو الله أن يتعلم ابني فن دهان الهواء قبل أن يحدث هذا