قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, December 29, 2009

حمى عدم اليقين


حمي كيو.. مرض قديم يعرفه كل طالب طب، ينقله ميكروب اسمه (كوكزيلا برنتي) الذي يمت بصلة قرابة للتيفوس. تم وصف المرض في أستراليا منذ قرن تقريبًا والميكروب معروف منذ عام 1937 هذا المرض ينتقل عن طريق الخراف والماعز إلي الإنسان بوساطة الاستنشاق واللبن غير المغلي. في المناطق الريفية في مصر يمكن القول إن كل طفل أصيب به يومًا ما. الأعراض عامة ومبهمة جدًا لهذا سمي المرض «حمي كيو »ـ
Q
 بمعني
Query
 أو (عدم اليقين)، لكنها قد تشبه الإنفلونزا، والأشعة علي الصدر تريك ظلالاً من الالتهاب، وقد يحدث التهاب في صمامات القلب التالفة أصلاً. عامة يستجيب المرض بسهولة لبعض كبسولات التتراسيكلين أو السلفا وتنتهي المشكلة، ومن السياسات العامة التي تعلمتها أيام الوحدة الريفية أن تجرب التتراسيكلين مع هذه الحميات الغامضة لو لم يكن هناك مانع طبي، لأن فرصة عمل اختبارات معقدة شبه مستحيلة مع إمكانياتنا، ولأن التتراسيكلين قد يقضي علي مرض اللجيونيلا والسيتاكوزس بالمرة
المرض قديم كما قلت ومتوطن في مصر

لماذا قررت الصحف إذن أن (إنفلونزا المعيز تجتاح العالم)، بينما بدأ الأمر بخبر في موقع غربي يقول إن هولندا تواجه انتشارًا لحمي كيو؟

هي ليست إنفلونزا علي الإطلاق ففيروس الإنفلونزا لا يسببها، وهي قابلة للعلاج بالمضادات الحيوية العادية، ومنظمة الصحة العالمية لم تستعمل سوى اسم (حمي كيو).. وهي لا تجتاح العالم.. لقد كانت موجودة في مصر طيلة الوقت، ولا أستبعد أن يكون الصحفي الذي كتب الخبر نفسه مصابًا بها. منتهي الجهل وعدم المسئولية واستغلال الفرص والأنانية وعدم التدقيق والبحث عن الإثارة بأي شكل، وهكذا التقطت كل الصحف ومواقع الإنترنت الخبر وصارت هناك ظاهرة جديدة اسمها (إنفلونزا المعيز)، وجاء اليوم الذي يسألني فيه سائق التاكسي

«حنعمل إيه في إنفلونزا المعيز دي يا باشمهندز؟»

قلت له إنني لست مهندزًا لكنني طبيب أمراض معدية، وكل هذا كلام فارغ، فراح يهز رأسه ويمصمص شفتيه مع ترديد (يا سلام) مبديًا انبهاره بدقتي العلمية وأنا أشرح له ما هي حمي كيو هذه، ثم في النهاية قال في أسى وهو يتصعب

ـ«مشكلة إنفلونزا المعيز دي فعلاً»ـ

لا جدوى... لا أحد يصغي لأحد في هذا العالم.. كل كلامي قد نزل في البالوعة

المشكلة ليست إنفلونزا المعيز، بل هذا التكاثر السرطاني لمساحات النشر في الصحف ومواقع الإنترنت والفضائيات. هذا لم يؤد لحيوية الديمقراطية بل فتح المجال لنشر الكلام الفارغ.. إن مصر تعاني فعلاً من حمي كيو أو حمي عدم اليقين. هذه المساحات يجب أن تُملأ.. بالرأي.. بالفكر.. بالأخبار الكاذبة.. بالأسمنت والطوب.. المهم أن تُملأ

في صحيفة مختصة بالجرائم وجدت منذ عامين خبرًا مثيرًا علي الصفحة الأولي: «حشرة غريبة تثير الرعب في الزقازيق وتقتل 700 مواطن.. الحشرة تنقل الكوليرا بعضتها !.. »ـ

أبسط شيء أن الكوليرا لا تنتقل بلدغ الحشرات.. كل تلميذ في الابتدائي يعرف هذا، ومعني ذلك ببساطة أن المحرر ساقط ابتدائية. أما عن صورة الحشرة ذاتها فصورة بالمجهر الإلكتروني لنوع من (الحلم) الذي يعيش في طبقات الجلد الميتة السطحية ويأكلها، ويسبب نوبات الربو لدى المرضي. طبعًا عندما تُكبّر صورته تصير أقرب للقطة من فيلم خيال علمي مرعب

المهم هو البيع.. المهم هو ملء الصفحات وليذهب المنطق العلمي للجحيم، والأهم فليذهب القارئ العادي للجحيم، ذلك الذي سيصاب بالهلع وهو يشعر أن الحياة كلها ضده …. لقد خرج الموت ليظفر به هو وأطفاله

الآن نأتي لجريدة مستقلة محترمة واسعة الانتشار (برضه ليست الدستور !) نشرت في الصفحة الأولي منذ أعوام خبرًا يقول ما معناه إن أسدًا في حديقة حيوان الجيزة التهم لحم حمار مصاب بجنون البقر.. النتيجة أن الأسد جن وأصابه هياج فظيع مما اضطر السلطات لقتله رميًا بالرصاص. طبعًا لا أحد يذكر هذا الخبر لكنني قصصته من الجريدة عالمًا أنني سأكتب عنه يومًا ما. من كتب هذا الخبر؟.. هل كان بكامل قواه العقلية؟.. ومن رئيس التحرير الذي سمح له بهذا؟.. هل الحمير تصاب بجنون البقر؟.. وهل المرض ينتقل للأسود؟.. وهل يسبب اللحم المرض خلال دقائق بينما نحن نعرف أن الأمر يستغرق نحو عشر سنوات؟.. وهل جنون البقر يسبب الهياج بينما نحن نعرف أنه مجرد نوع من فقدان التوازن يجعل الأبقار تمشي كالسكارى؟

أما عن التوالد الذاتي لمقال (سارة ستون) وكلام النصاب الأمريكي (هوروفيتز) والولية وزيرة الصحة الفنلندية المزعومة، فظاهرة تثير الإعجاب فعلاً. كلما حسبت الناس نسيت هذا الكلام الفارغ عاد للسطح بقوة في مقال في جريدة هنا أو هناك. لا تأخذوا اللقاح.. اللقاح فيه سم قاتل.. اللقاح مؤامرة لجعل نصف البشر أغبياء متخلفين عقليًا ومشلولين.. إياكم والسكوالين.. السكوالين يقتل يا حلوين

وها هي ذي جريدة الدستور تخصص نصف صفحة من عددها الأسبوعي لتعيد نشر كلام هوروفيتز وسارة ستون، برغم أن سارة ستون كتبت مقالها عن مخاطر اللقاح قبل أن تُنتج من اللقاح جرعة واحدة. وهل الوقت وقت هذا الكلام غير العلمي بينما المرض يزداد توحشًا؟. هناك خبر يقول: «كشفت خبيرة اللقاحات بمنظمة الصحة العالمية ماري بولي عن الاشتباه في إصابة ما لا يقل عن 12 شخصاً من مختلف دول العالم بالشلل نتيجة حقنهم باللقاح المضاد لإنفلونزا الخنازير، وأضافت: لم يثبت بالدليل القاطع ارتباط أي من حالات الإصابة بمتلازمة (جوليان باري) باللقاح حتي الآن». هل فهمت أي شيء؟.. هناك 12 شخصًا أصابهم اللقاح بالشلل لكن لم يثبت أن اللقاح أصابهم بالشلل !. هناك موقع إنترنت أعلن في انتصار عن وفاة تلميذ مصري أخذ اللقاح، ثم تقرأ الخبر فتكتشف أنه يتحدث عن الطفل الذي أصيب بإنفلونزا الخنازير ومات عقب جرعة من الفولتارين. السبب أن الأخ محرر الخبر ظن أن اللقاح اسمه (فولتارين). وبهذه المناسبة أعتقد أن عقار (دايكلوفيناك) أو فولتارين تلقي ضربة قوية جدًا بعد هذه الدعاية السيئة له برغم أنه من أهم الأدوية في ترسانة مضادات الالتهاب/مخفضات الحرارة. لماذا وضعته وزارة الصحة في قائمة الممنوعات بهذه السهولة برغم أن أحدًا لم يتهمه بشيء سوى في بعض حالات التهاب المخ في اليابان، وهذا كلام قديم؟. اليوم يمكن أن يمزق المريض طبيبه لو كتب له (دايكلوفيناك)، ولسوف تكتب الصحف صفحات كاملة عن مسلسل الجهل لدى الأطباء.. ياللا.. خلي الناس تقرا وتنبسط

الآن صارت مشكلة المواطن المصري مزدوجة: اللقاح قاتل ويحدث شللاً. اللقاح غير متوافر ويُعطي للمحظوظين فقط !!! هذا يذكرك بكلمة وودي آلين الساخرة: الحياة قاسية مليئة بالآلام لكنها كذلك قصيرة.. قصيرة جدًا

هناك عشرات المشاكل تواجه مصر اليوم، بدءًا بالتوريث مرورًا بمياه النيل والتعليم والبطالة.. وانتهاء بإنفلونزا الخنازير. لكنني أضيف لها خطرًا يعبث عبثًا مروعًا في عقل المواطن الذي يصدق كل شيء ويشك في كل شيء.. هذا الخطر هو النشر غير المسئول أو الجاهل أو معدوم الضمير